د.عبد الرحمن الحبيب
إذا كنت تريد اختيار واحد من مشاريع لاستثمار مالك، فستحسب المكاسب والخسائر المحتملة، ثم تتخذ القرار بشكل عقلاني لما هو في صالحك.. أو ما يطلق عليه «البداهة المستقلة» التي تزن الربح والخسارة باستقلال عن العواطف والشكليات، حسب نظرية المنفعة..
هل هذا صحيح؟ هذا ما تتوهمه أنت! يقول لك عالم الاقتصاد الفرنسي موريس ألياس (1953م) فهنالك سياقات تجعلك تتخذ قراراً غير عقلاني، مثبتاً ذلك تطبيقياً ومتحدياً نظرية المنفعة التقليدية.
مثلا: لو خيرت بين تفاحة وبرتقالة، واخترت التفاحة. ثم خيرت بين تفاحة وبرتقالة وخوخة؛ بديهياً ستختار بين التفاحة والخوخة وألا تدخل البرتقالة في الخيار، لكن كافة الاستطلاعات الميدانية أظهرت غير ذلك، مما أصبح يعرف بـ «مفارقة ألياس»..
تلك المفارقة قادت كانيمان (فائز بجائزة نوبل للاقتصاد) وتفرسيكي لمزيد من الأبحاث وطرحا عام 1980م نظرية الاحتمال (الاختيار بين الاحتمالات)، بأنه في الظروف غير اليقينية يتخذ الناس قرارات قد لا تبنى على أسس عقلانية. لقد وجدا أن أغلب الناس يكرهون المجازفة عندما يتوقعون الربح ولو قليلا منه (عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة)، لكنهم يجازفون عندما يتوقعون الخسارة.. إننا نسعى لتجنب ما يخيفنا أضعاف ما نسعى للحصول على ما نرغب به، مما يؤثر في عقلانية قراراتنا.
قام كانيمان وتفرسيكي باستطلاع تجريبي يختار فيه الناس أحد خيارين لمواجهة وباء يهدد حياة ستمائة شخص: الأول طريقة تنقذ مئتي شخص؛ والثاني طريقة تعطي فرصة لنجاة الثلث ووفاة الثلثين. غالبية المصوتين اختاروا الأول، وعندما تم تعديل صيغته بأنه يؤدي لوفاة أربعمائة شخص، اختارت الأغلبية الثاني، أي رفضوا الخيار الثالث رغم أن نتيجته مساوية للأول! لماذا؟ في بداية الاستطلاع الناس مالت مع لغة الانقاذ ولم تحب المجازفة، وفي الثاني الناس تكره الخسارة ومستعدة للمجازفة لتفادي فقد الأنفس (الخسارة) أكثر من انقاذ الأنفس (الكسب). الأساس هنا أن صيغة طرح الخيارات تؤثر بقرارنا حتى لو كانت النتيجة واحدة، بل حتى لو كانت النتيجة ضارة بنا كما بالمثال التالي:
عرضت على مجموعة من الناس نوعين من اللحم: 99% خالي من الدهون و 1% دهون، وقيل لهم أيهما أكثر صحية، الغالبية اختارت الأول رغم أنهما متساويان. حتى بعد تعديل الخيار الأول إلى 98% خالي من الدهون وبقاء الثاني كما هو، اختارت الأغلبية الأول! كيف؟ لأن كرهنا للخسارة أكثر من حبنا للكسب، يعطي إمكانية كبيرة لاتخاذ قرار غير متوازن في حساب الربح والخسارة، قد يكون بالمحصلة ضاراً بنا ونندم عليه..
لاحظنا كيف ندم ملايين البريطانيين الذين صوتوا لترك الاتحاد الأوربي.. فلماذا اتخذوه؟ لأن دعاة الخروج من الاتحاد ركزوا على الخسارة بلغة تخويف من أضرار الاتحاد الذي زعموا أنه سبب الارهاب والخسائر الاقتصادية.. خذ أيضا تقرير تشيكلوت الذي حقق في مشاركة بريطانيا بغزو العراق، وخلص إلى أن الغزو بني على أدلة مغلوطة بوجود أسلحة دمار شامل.. هنا يمكن القول إن الخوف من تلك الأسلحة جرف القيادة البريطانية لاتخاذ قرار بني على أسس غير عقلانية..
الأسبوع الماضي في لويزيانا أطلق الشرطي النار على رجل أسود في سيارته عندما كان يهم بإخراج رخصة القيادة.. فما الذي دفع الشرطي لهذا العمل الشنيع؟ غالبية ردود رجال الشرطة الذين حقق معهم بحوادث مشابهة في أمريكا، كان خوفهم من أن حركة المشتبه به الذي رفض الثبات دون حراك تشير إلى أنه سيخرج سلاحاً رغم عدم وجوده، أي نفس الخطأ الذي أشار له تقرير تشيكلوت..
في مثل تلك الحوادث بين الأمريكيين لم يجد المرشح الرئاسي اليميني المتطرف ترامب إلا حالة واحدة في فلوريدا لجاني أمريكي لأن أصوله أفغانية، مستغلاً حالة الفوبيا من الأجانب، ومؤكداً خطرهم على أمريكا، بينما الموازنة العقلانية توضح أنها حالة واحدة بين مئات الحالات..
من كان يظن أن أمريكا التي تقوم على أكتاف المهاجرين يظهر على مقدمة مرشحي رئاستها شخص شعاره الأول ضد المهاجرين؟ من كان يظن أن العمدة السابق للندن العاصمة المنفتحة على كل العالم صار من قادة الانفصاليين.. من كان يظن أن باريس عاصمة الانفتاح صارت مرتعاً للانغلاق والشوفينية..؟
إنه الخوف في عالم متقلب غير قابل للتوقع وخارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة المعتادة.. الخوف طبيعي عنصر مهم في الموازنة العقلانية بين المنفعة والضرر لكن استغلاله من قبل الانتهازيين في الظروف الغامضة يمكن أن يعمي صاحب القرار عن الموازنة العقلانية بين الأرباح والخسائر باستقلال عن العوامل الشكلية والظرفية الطارئة..
ورغم ذلك، فلم ينجح مستغلو الفوبيا السياسية إلا عرضياً.. فأمريكا قبل سنوات اختارت رئيسها من ابن مهاجر مسلم أسود، وأعادت انتخابه.. ولندن قبل أسابيع اختارت مسلماً ابن سائق باكستاني عمدتها.. وحكومة فرنسا بها عدة وزراء من أصول غير فرنسية منهم ثلاثة أصولهم عربية مغاربية إضافة للمتحدثة الرسمية باسم الحكومة (نجاة بالقاسم).. العقلانية لا تزال تعمل وإن اعتراها الوهن، والعوامل المساعدة للعولمة والانفتاح أكثر من عوامل الانقسام والانغلاق.