نجيب الخنيزي
الحركة القومية العربية بتكويناتها المختلفة صادرت حق الجماهير في التنظيم الطوعي المستقل وفرضت خطاباً شعبوياً يستلهم الزعيم القائد (عبد الناصر) أو الحزب القائد (البعث) انطلاقاً من موضوعه أولوية الديمقراطية الاجتماعية ومفهوم تحالف قوى الشعب العامل، وإزاء المخاطر والمؤامرات الاستعمارية والصهيونية المزعومة أو الحقيقية جرى تقنين الحريات، وفرضت حالة الطوارئ، وأنشئت المحاكم العسكرية، ووضعت الصحافة وأجهزة الإعلام تحت التوجيه والرقابة المباشرة. وبكلمة فإن شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة تمثل في التطبيق العملي في إخراس كل الأصوات المعارضة والمختلفة، بما في ذلك الشرفاء الحريصون على خدمة الوطن والدفاع عن المصالح القومية والوطنية الذين اعتبروا أن قضية الديمقراطية والحريات مسألة أساسية في المواجهة الوطنية والقومية من أجل الاستقلال والتحرر والتنمية والتقدم والوحدة.
في ظل هذه الأوضاع نشأت قوى طبقية جديدة (بيروقراطية/ طفيلية) ضمن أجهزة الدولة ومرافقها ومؤسساتها الاقتصادية (القطاع العام) حيث استغلت مواقعها لممارسة شتى أنواع النهب والفساد ومراكمة الثروات، وعملت مراكز القوى هذه جاهدة لإعاقة أي تقدم حقيقي يمس مصالحها أو يصب في مصلحة الشعب على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذه القوى الطيفية الجديدة وجدت أساساً موضوعياً (مصلحياً) للتحالف مع بقايا البرجوازية الكمبرادورية (وكلاء الشركات الأجنبية)، والقوى الاجتماعية التقليدية القديمة التي استعادت مواقعها مع العد العكسي لأفول واندحار مرحلة التحرر الوطني خصوصاً في أعقاب هزيمة يونيو 67 والموت المفاجئ لعبد الناصر ومجئ السادات الذي انقلب على إرث ومنجزات العهد الناصري مستنداً إلى الأجهزة نفسها التي ورثها من عبد الناصر.
وفي الواقع، فإن ما جرى في مصر تكرر في جميع الأنظمة العربية الشمولية المحكومة بسلطة الفرد أو سلطة الحزب، حيث استطاعت القوى الطبقية الجديدة/ القديمة استعادة هيمنتها وتسلطها من جديد. فالتجربة الناصرية هي نموذج بامتياز لصعود وانتكاس المشروع القومي في صيغته السائدة والذي سنشهده في الدول التي حكمتها أحزاب أو قوى قومية بالاسم غير أن سياساتها كانت تعبر عن توجهات قطرية بل ما قبل الوطنية، وجرى استبدال حق المواطنة للفرد والجماعة بحق المواطنة الحزبية على حساب حقوق ومصالح الأغلبية الساحقة من الشعب. اتسم الوضع العربي العام بتسارع حالة التشظي والانقسام الأفقي والعامودي وهيمنة الاستبداد ومصادرة المجتمع واستشراء الفساد والفقر والبطالة في ظل فشل أنماط التنمية، ويكفي أن نشير إلى حالة العجز والهوان والضعف الذي يسود العالم العربي إزاء ما يواجهه من تحديات مصيرية وفي مقدمتها التحدي الصهيوني المدعوم من قبل الولايات المتحدة.
للحديث صلة..