د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
هذه المقولة الجامعة لابن القيّم يرى كثير من العلماء مثل الشيخ صالح الفوزان والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهما أنها تصدق على المصالح التي لم يرد نصٌّ صريح في الكتاب والسنة الصحيحة بتحريمها. وهم يرفضون أن تستخدم لتزيين مصلحة ظاهرة تخالف نصّاً صريحاً. فهل يمكن تطبيق تلك المقولة على قيادة المرأة للسيارة؟
هل من حق المرأة أن تقود سيارتها؟
هل هو حق يجب أن تحصل عليه، أم هو عبثٌ لا جدوى منه. بعض نسائنا، ينتقدن من يطالب بذلك تاركاً أولوية المطالبة بحقوق المرأة الطبيعية مثل الميراث والحضانة والنفقة؛ وإحداهنّ تصوّب نقدها بالاسم إلى نساء كريمات وطنيات بدعوى الاستجابة لمطالب الغرب. إلاَّ أن بعضهن يرى التريث إلى ظرف ملائم، مثل تقبّل المجتمع أو تشغيل المترو. وإزاء هذه التحفّظات يحتجّ المؤيدون بما يلي:
- القول إن حق القيادة أمر ثانويّ، والأولوية هي لحقوق المرأة الطبيعية - كالنفقة والميراث وغيرهما - فيه تمويه. فهذه الحقوق مقرّرة شرعاً ولا تحتاج إلى إقرار جديد، بل إلى متابعة من قبل المحامين وجهات القضاء وسلطات التنفيذ. أما حق ممارسة القيادة فيحتاج إلى إقرار، وهذا هو أساس المطالبة.
- ممارسة المرأة لهذا الحق تسهّل لها السعي لنيل حقوقها المهضومة.
- المرأة لها الخيار بين أن تسوق أو لا تسوق، بين أن تتخلّى عن السائق الأجنبي أو تبقيه إذا رأت ذلك ضرورياً.
- مشكلات بدئ التطبيق - المرورية أو الاجتماعية - لا تبرّر حجب الحقوق، لأنها قابلة للحل.
- السيارة وسيلة نقل تقودها المرأة كما فعلت مع الناقة وغيرها قبل السيارة، ولم يقل أحد بتحريم ذلك شرعاً.
- ظروف المرأة العصرية، مثل العمل، مراجعة المرافق الصحية، إيصال أطفالها للمدارس، التسوّق، متابعة شؤونها وشؤون الأسرة - خاصة في غياب الرجل - تضطرها للقيادة.
قيادة المرأة للسيارة والمصلحة العامة:
قيادة السيارة حق للمرأة فيه مصلحة لشخصها ولا يعارض نصّاً شرعياً. فهل فيه مصلحة عامة؟
- إن مستوى المرأة المهني والثقافي والاقتصادي ارتفع ورفع معه قدرتها على تحمّل المسؤولية، ولم يعُدْ لائقاً بابنة الوطن بقاء مستواها الاجتماعي دون ذلك، في مجالات هي حق لعموم النساء - مثل قيادة السيارة. في مجتمعنا اليوم يشكّل النساء (22 %) من قوة العمل السعودية المشتغلة (أي من دون اللواتي لا تشتغلن) - في القطاع الحكومي (33 %) وفي القطاع الخاص (15 %). وسوف تزيد عن ذلك إذا خُفضت أعداد العمالة الوافدة. صحيح أن عدد النساء العاملات يتزايد عبر السنين من دون قيادة السيارة، لكن ببطء بسبب عوائق اجتماعية. من بينها مشكلة المواصلات، حيث لا بدّ للمرأة من سائق أجنبي أو محرم ينقلها على حساب وقت عمله. لذلك فإنَّ خلوّ عمل المرأة من مشكلة المواصلات والاستغناء عن عدد كبير من السائقين الأجانب يجعلان قيادتها للسيارة واحدة من عوامل تقليل نسبة العمالة الوافدة وزيادة السعودة. فالمطالبة بها هي لتحقيق مصلحة للمرأة والمجتمع، وليست - كما أراد البعض تأويلها - استجابة لدعوات غربية، هي أصلاً لا تغيّر ولا تبدّل شيئاً من قيمنا، فالدولة أحرص منهم، ولا تقبل أيّ توصية تعارض الشريعة الإسلامية.
- يحتج بعض المعارضين بالخوف من مفاسد، يعُدّون منها الاختلاط وكشف الوجه والضعف عند التحرش أو الإغواء والشك في سلوكها عند انتقالها بالسيارة وحدها. وواضح أن هذه الأفكار تصدر من ثقافة اجتماعية تنظر للمرأة - كجنس عام - نظرة دونية ومرتابة. وما إنكار حق القيادة إلا مبرّر للوصاية الذكورية. فهذه الثقافة التي تخشى الاختلاط والضعف أمام الإغواء لا تمانع في ركوب المرأة وحدها مع سائق أجنبي. وبعض المعارضين يتخذ من الحديث: (ليس شيء أضرّ على الرجال من فتنة النساء)، حجة لإلقاء التبعة كلها على النساء، عندما يتحرش بهنّ رجل فاسق، مع أن الصبيان أيضاً عرضة للتحرش من مثل هذا الرجل. ولهذا - مثلاً - جمع ابن تيمية بين الصبيان والنساء في سياق واحد عند الحديث عن المعاصي التي لا توجب الحدّ، مثل تقبيل (الصبي والمرأة الأجنبية) وأنه حسب كبر الذنب وصغره يعاقب من يتعرّض (لنساء الناس وأولادهم) إلخ - (انظر كتاب السياسة الشرعية). وممّا يجرّئ الرجل على التعرض للمرأة تأثّره بتلك النظرة الدونية واعتقاده بضعفها. ولذلك فإن المبالغة في سوء الظن بالمرأة حجة لا تستند إلى أساس.
- كما يحتج المعارضون بما يعترض المرأة في قيادتها للسيارة من مشكلات. إذ يتصوّرونها أكثر معاناة من الرجل مع الزحام المروري وشحّ المواقف، وكأن الرجل أصبر وأقلّ انفعالاً، وأنها أقلّ قدرة منه في التعامل مع الحوادث والأعطال، وأنه قد يساعدها الرجال أو تتعرّض للإيقاف من الشرطة. لا شك أنّ من النساء من يحجم عن القيادة لهذه الأسباب. لكنّ التي تقود لن تواجه مواقف أكثر حرجاً من وجودها مع سائقها الأجنبي، ففي كلا الحالين ستستدعي زوجها أو أخاها إلى مكان الحادث أو العطل، وستتحدّث مع الشرطي أو المشارك في الحادث، لأن السائق قد لا يحسن اللغة أو في حاجة لمن يسنده.
البدء بالتطبيق بخطوات محسوبة:
كل أمر جديد لم يألفه الناس يُحدِث في البداية - كما هو معروف - شيئاً من الاستغراب أو المقاومة. لذلك فإن الخطْوَ المتئد يعطي المجتمع والهيئات الدينية والمرور فرصة للتقييم ونزع المخاوف بثقة. وإذا تمّ إقرار السماح للمرأة بقيادة السيارة فإن من البديهي أن يرافق ذلك توعية وتوضيح لمبرّرات الموافقة وإجراءات تنظيمها ومراقبة تطبيقها، وحثّ الهيئات الدينية جميعها على التعامل مع الحدث كأمر واقع أملته الضرورة، وتذكير الجميع أن يكونوا رقباء على أنفسهم ومتمسّكين بالخلق القويم، وحثّ الهيئات المختصة على مراقبة الانضباط بوعي وحزم. ومن المؤكّد أن التنظيم سيشمل:
- تنظيم منح الرخصة ومتطلباتها.
- سنّ قانون يمنع التحرش ويعاقب عليه. ولا يعتبر هذا إجازة ضمنية للاختلاط لأنه واقع فعلاً.
- تزويد كل مرخص لها بالقيادة بهواتف المرور وورش الصيانة لاستدعائها عند الحاجة.