في يوم من الأيام وأنا أدلف إلى إحدى الإدرات الحكومية وعند درج الإدارة يقابلني رجل جاوز الثامنة والخمسين من عمره يلتقط أنفاسة أنهكه التعب ومرض السكري يبست شفتاه ضممته بحرارة وعانقته بشدة؛ معلم من الطراز الأول مربي للأجيال على مدار أربعة وثلاثين عاماً قضاها في التربية والتعليم قال أنا تقدمت بطلب تقاعد وأنا أركض من دائرة إلى دائرة لأنهي إجراءات التقاعد بمقولته العفوية (جعلوني زبيل الدلال) بين الإدارات الحكومية.
قلت: نحن في عصر التقنية والسرعه أين ما يسمى بالحكومة الإلكترونية التي تنادي بها الادرات الحكومية وهي تعني مفهوماً جديداً يعتمد على استخدام تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات للوصول إلى الاستخدام للموارد الحكومية وكذلك لضمان توفير خدمة حكومية مميزة للمواطنيين من أهدافها تقديم خدمات أفضل للأفراد وقطاع الأعمال وبشكل أيسر وتوفير المعلومات المطلوبة بدقة عالية في الوقت المناسب كيف لا تكون الخدمة مع شخص أمضى زهرة شبابه بل معظم عمره بخدمة الآخرين، بل هو بخدمة دينه ووطنه بلغ به الكبر مبلغه نحن نعيش بمجتمع مسلم مترابط نشأ وتربى على احترام وتقدير الكبير التي دعا إليها ديننا الحنيف ثبت في سنن أبي داوود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إن من إجلال الله إكرام ذا الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي به أو الجافي عنه وأكرام الحاكم المقسط فإكرام ذا الشيبة من إجلال الله سبحانه ولا سيما عند كبر سنه وضعف في بنيته ووهاءِ في بدنه وضعف في صحته، فالحقوق تتراكم والواجبات تتعدد ولكنها البيروقراطية في الأنظمة التي تنادي بنظرية التقيد الحرفي بالقوانين ضمن لوائح مكتوبة ليتم ضبط إيقاع العمل من خلال نموذج دقيق يمر عبر سلسلة من الإجراءات المتشابكة مما يجعله نظاماً أقرب إلى التعذيب منه إلى التنظيم فما زال روتين العلم الحكومي عصياً على الكسر أمام الفرد رحلة المعاناة الطويلة من استلامة لخطاب الإحالة إلى التقاعد وإنهاء الإجراءات النظامية تأتي معاناة الوضع المادي والمعيشي الذي يزداد سوءاً بعد سوء نتيجة حسم البدلات والعلاوات وإيقافه على الراتب الأساسي في ظل ما يشهده العالم من معدلات التضخم والغلاء وكثرة ما يحتاجونه من مصاريف وأمور حياتية لاتخفى على أحد طالت تلك الأزمة جميع شرائح المجتمع وبات الكبير قبل الصغير والغني قبل الفقير يشكوا منها.
معلم زميل توفي (رحمه الله) بعد تقاعده بفترة بسيطة هوى مرتبه من عشرة آلاف إلى ألف وخمسمائة ريال يستلمها أبنائه المعاش التقاعدي حق كفله النظام وبنظر مؤسسة التقاعد أنه لا يعد إرثاً أو تركه فمعنى ذلك أن المتقاعد بعد وفاته لا يستفيد من تقاعده أغلب الورثه بغض النظر عن حالتهم المعيشية ومستواهم المادي والظروف المحيطة بهم فالنظام يقطع المعاش المستحق للذكور من المستفيدين إذا بلغوا سن الواحد والعشرين بدون قيد أو شرط وأغلب الذكور في هذا السن على مقاعد الدراسة في الثانوية أو الجامعة على وشك التخرج أو من هؤلاء ممن لم يوفق في مواصلة دراستة فلماذا يقطع نصيبة من معاش والده أو مورثه مع أنه ليس له ذنب سوى أنه بلغ الواحد والعشرين من العمر ولربما أعيته الحيل على تحمل مسؤوليته تجاه إخوته وأخواته الصغار فما هو مصدر رزقه ليضطر بالنهاية إلى إراقة ماء وجهه إلى طلب المساعدة من بعض أقاربه أو اللجوء والتسجيل في الجمعيات الخيرية أليس من حق الموظف أن يستمر راتبه كاملاً حتى يبلغ أبنائه السن الذي يسمح لهم بالعمل أو اللحاق بأي عمل يسمح له بمؤونة نفسه ومؤنة غيرة ومن ثم ينخفض المبلغ تدريجياً بدلاًمن العصف بالأبناء فور موت الأب أليس ذلك حفظاً لكرامة المتقاعد في أبنائه بعد وفاته ناهيك بما قد يحدث للأبناء لا سمح الله من إفرازات اجتماعية وأخلاقية وأمنية أو أنها البيروقراطية في الأنظمة.
من حق المتقاعدين رعايتهم الصحية فالغالب نجد أن المرأ الذي خرج إلى عالم التقاعد يحمل معه حزماً وحقائب من أمراض الشيخوخة في هذا السن كالسكر والروماتيزم والأم القلب وضعف الذاكرة والسمع والبصر والسرعة في التعب إضافة إلى التغيرات الجسدية والنفسية الناتجة عن طبيعة المرحله مما يجعله في حالة ماسة إلى علاج مستمر ومنظم وسريع هذا واقعهم الصحي حقيقة.
وحيث إن المتقاعدين لم يستثنهم النظام الصحي بأي قواعد تراعي كبر سنهم ومشاكلهم الصحية فالحل الذي نتوقعه ونطالب به في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين وفقها الله وسدد على الخير خطاها التي شمل خيرها البعيد قبل القريب بتخصيص وحدات علاجية ومتكاملة صحياً ونفسياً لعلاج المتقاعدين والمسنين في المراكز الصحية الحكومية والأهلية ليضمن لهم علاجاً منظماً يحفظ صحتهم وكرامتهم، فئة أفنت عمرهها وشبابها وخبرتها وعلمها في خدمة الوطن وتأسيس بنيته فحقهم علينا سابقاً والآن ومستقبلاً.