د. حمزة السالم
«أها بس، عود»، كانت إعلامًا بانتهاء عهد الطفولة والرعاية. فبالرغم من أنني تخرجت من أمريكا، وأنا أب لخمسة أطفال، إلا أنني كنت أحمل تصورات طفولية عن الحياة، ومنغلقًا على حياة السلف. وتغيُّر التصورات يحتاج لزمن يسمح بصدمات فكرية، تتابع على أساسات التصور لتهزه مرة بعد أخرى حتى ينهار الحجاب؛ فينطلق الفكر، الذي أيقظته الصدمات من سباته فأدركه تملل الحبس الطويل.
فالإنسان يتعايش اختيارًا أم جهلاً مع تناقضات كثيرة في عمله وعلاقاته وحياته، وقد يدركها البعض فيتجاهلها، ويوطن نفسه عليها فيتبلد فهمه ويتصخر حجابه وينقلب منطقه. وعمومًا، فإن النفس التي لا تنكر الحقائق تكون قريبة من الفهم والتعلم وانطلاق الفكر. فالمبتعث يتعرض للصدمات الغربية لا محالة، فإما أن يوطن نفسه على إنكار الحقائق أو تحريفها، وإما أن يوطنها على القبول والتسليم. فإن سخر له هزات توقظه وصدمات تخرق حاجب الفكر وإلا تصبح طيًّا من النسيان.
فكنت أرى الحقائق فلا أنكرها، ولكن أتأولها على أنها من الفتن. حتى تعمقت نوعًا ما في النقود وحقيقتها وتطورها أثناء كتابتي لرسالة الدكتوراه. فلعل هذه كانت أول هزة لي، دفعتني لإعادة البحث في مسلّمات كانت عندي حول مسائل شرعية في باب المعاملات. وما وجدته ممن يدعي العلم والورع عند عرض الحقائق عليه هزة أخرى، دفعتني للاستقلالية التامة.
ومن رضع من ثدي عقودًا
فما الفطام عليه بأمر يسير
وبعد كتابة كتيب في مسألة النقود وما يتعلق بها، وعدت لمراجعة المسلَّمات الفقهية التي استشهدت بها في مواقف، إذا بي أجدها لا أصل لها من كتاب ولا سنة ولا عقل ولا استنباط صحيح. فهذا دفعني لكرة الثلج فإذا هي تكبر وتكبر، ويتقاصر زمن تتابع الصدمات فنفضت البساط كله، فظهر لي ما جعلني أتوقف وأبدأ مرحلة التشكيك في عقلي؛ فأراجع عقلي، فأحتج عليه بما ليس فيه حجة؛ فأتساءل: وهل يعقل أن قرونًا من بعد الجيل الأول مرت، ولم يكتشف هذا إلا ابن سالم؟ ولو كانت هذه حجة للزمت، ولو لزمت لما تقدمت البشرية خطوة واحدة.
وعمومًا، ففي أمور الشرع إن الرد الصحيح هو: بل عرفه كثيرون. فمن أظهر الحق اتهموه وبدعوه، فينتهي ذكره، هذا إن لم يكفروه ويزندقوه فيقتلوه، وقد تسرق كتبه فينسبونها لهم. وينسب للأئمة الكبار ما ليس من قولهم، وهذا يحدث في أيامنا، فما بالك قبل ألف عام. وهذا كذلك يشرح التناقضات الكبيرة في بعض كتب الأصول، كما أن انتصار كثير من أهل المذاهب لمذاهبهم دفعهم لتحريف الثابت وتأويل المحكم فذهبت عقولهم، فما استحوا بعد ذلك من قلب المنطق وعوج الحجة.
وأما الكتيب فقد صار كتابًا مطولاً، وتوسعت عليه المواضيع، فقررت الابتعاد عنه إلى حين، عسى أن أنسى ما تفتح علي، فمتى نسيت عجلت بالمراجعة فلا تنفتح لي أمور أخرى، فالله كم يجر الخرق لخرق أكبر منه.
فابتعدت عن كل ما يتعلق بالعلوم الإنسانية، وانخرطت في أمور الدنيا، فكأني خرجت من قرية لمدينة، ففي أمور الدنيا من العجائب والتناقضات والادعاءات ما جعل فقهاء المذاهب وعندي صدّيقين وشهداء. وللحديث بقية.