ياسر حجازي
الفجوة بين العربيّة المنطوقة (المتعدِّدة) والعربيّة المكتوبة (الواحدة) واسعة إلى درجة جعلت بعض المنشغلين باللغات الحيّة الغربيين أن يعتبروا اللغة العربيّة ليست من اللغات الحيّة نظراً لكونها لغة غير منطوقة، (ناقش هذه الإشكاليّة بصورة أوّلية شريف شوباشي في كتابه لكي تحيا اللغة العربيّة يسقط سيبويه)، وحجّتهم: أنّ الفوارق بين المحكيات المنطوقة المحكيّة على اختلافاتها الجذريّة والمتعدّدة (المحكيّات العربيّة) وبين اللغة المكتوبة على أنّها لغة العرب قاطبة ليست فوارق بسيطة يمكن تجاوزها أو إصلاحها، بل إنّها فوارق تجعل المرء يتشكّك في مدى متانة العلاقة والربط بين هذه المحكيات وبين اللغة المكتوبة، وأهم هذه الفوارق: (المحكيات ذات كلمات ساكنة الآخر والمكتوبة ذات كلمات صائتة، المحكيّات لا تملك معاجم خاصّة بها -رغم محاولات يسيرة أرادت أن تربط بين المحكي والفصيح- والمكتوبة ذات معاجم، المحكيات لا تملك شكلاً ثابتاً لكتابتها فهي فاقدة للحروف الأبجديّة أو فاقدة لاتّفاق عمومي على طريقة رسم حرفها، بينما العربيّة ذات أبجديّة عريقة، المحكيات متفرّقة جدّاً ومختلفة والعربيّة واحدة/ أو أصبحت واحدة لأنها وسيلة التعلّم وهي المدوّنة)؛ ما حكاية هذه الفجوة؟ هل يمكن تقليصها أو تجاوزها؟ هل يمكن إصلاحها أم أنّها قديمة قدم وجود المحكيات واللغات وخروجهم عن اللغة الآراميّة وصولاً إلى استعارة الحرف الآرامي؟ هل يفيدنا أن نعرّف أنّ مرحلة نشأة جذور اللغة التي وصلت إلينا في شكلها الحالي ونطقها ورسمها يعود إلى استخدامنا الحرف الآرامي، وهل في هذا ما يؤكّد أنّ اللغة والمحكيات التي وصلت إلينا كانتا مفترقتين منذ عهود قديمة؟ وأنّ المسألة ليست فجوة بين المنطوق والمكتوب، بل هما منفصلان عن بعضهما؟ لطالما كان النطق على لهجات العرب (واللهجة عندنا لغة مستقلّة، وليس طريقة لنطق الحرف- ولنا حجة فيما أخرجها الشيخ عبدالله العلايلي من حجج تمكيناً لهذا الرأي - يمكن الرجوع إليه في كتابه الشهير كيف نضع المعجم) وبين رسم هذه اللهجات/ اللغات المنطوقة؟ فالنطق له ظروف اعتباطيّة والحرف له ظروف واعيّة وغير اعتباطيّة، هذا مسموع وذاك مقروء وشتّان بينهما في باكورة وعي الإنسان القديم، وباكورة وعيه اليوم. فالإنسان تاريخيّاً - ولم يزل- يبدأ بالسماعي ولا يحتاج إلى تعلّمه إلى مجهود أكثر من كونه ينتمي إلى أحد يحدّثه، وأنّ أداة سمعه سليمة، فاكتسب النطق بالسماع طبيعة في الإنسان وبها صار إنسانا بوصف النطق جزءاً من عمل الذاكرة التي ينفرد بها هذا الكائن دون علّة فيه سوى تطوّره، ثم ينطلق إلى المقروء - إن تعلّمه- وإن كانت قراءة الأشياء المحيطة به نوعاً من القراءة الأوّلية البدائيّة، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى تعلّم وتدرّب وتجربة، فالمقروء ليس طبيعةً فيه ولا يمكن اكتسابه تلقائياً، بل يجب تعلّمه والتدرّب عليه، وبعد ذلك يبقى عمره كلّه تحت تأثير المسموع أكثر من المقروء، على شيوع الكلام المنطوق وكثرته، وعلى محدوديّة المكتوب وإن انتشر في أصقاع الأرض جميعها.
* *
أصل في الكتابة أنّها تابعة للنطق، فالمنطوق له الأسبقيّة حكماً، ومنه بعد ذلك يتمّ القياس وموجبات الضبط والاستنباط، وهي أمورٌ نسبيّة قد لا تجري على جميع الألسن، فهي تكتسب بالتعلّم، لكنّ الراصد يأخذ المشاع ويسنّه ويُؤوّله من وجهة نظره، وقدرته على تبرير الضبط الذي آت به، وسؤال المقال: إلى أيّ مدى تمكّن واضع النحو العربي من ضبط منطوق الناس وشيوع أصواتهم في الكلمات إذا كانت صائتة، أو ساكنة؟ وهل الأصوات التي نخرجها في حركات اللغة للضمة والفتحة والكسرة والشدّة والتنوين والسكون هي أصوات وقعت في اللسان العربي بين قبائل الجزيرة العربية يوماً ما على هذا الإيقاع والإخراج والإظهار والنطق؟ على الرغم أنّ إيقاع وأوزان الشعر العربي المنقول إلينا تؤكّد وجود هذه الأصوات، ولكنها لا تحسم نهائياً طريقة نطقها وصوتها، هذا إذا سلّمنا (بخطأ) ما وصل إليه طه حسين حينما تشكّك في نسبة الشعر الجاهلي إلى عصره المنسوب إليه، إذ يرى أنه كتب في مرحلة متقدمة بعد انتصار لغة على أخريات وانتشارها في الجزيرة العربية؛ أمّا بوجود تصوّر طه حسين (إذ ليس من العلميّة على الباحثين في هذه المسألة تجاوز طروحاته فيه) فالمسألة تعود مرّة أخرى إلى حالة غياب اليقين التام عن كيفية نطق هذه اللغة وحروفها المتحرّكة، على اعتبار أنّ الشعر (الجاهلي) مكتوب في غير عصره ولا يمكن القياس عليها.
كيف نشأت الفجوة إذاً بين صوت المنطوق وصوت المقروء؟ هل تعليم النحو العربي والإعراب والبناء الذي اهتمّ إلى تعريف الحركات بتعريفات كتابية وليس صوتيّة مسؤول عن اتساع الفجوة؟ هل هما لغتان مفترقتان وليست الفجوة سوى الإصرار على إيجاد رابط بينهما على أنّهما لغة واحدة صائتة كتابةً وساكنة تداولاً.
والمسألة محلّ بحث، وما هذا المقال سوى سؤال ضمن أسئلة معقدة في تاريخ اللغة العربية وتاريخ المحكيات العربيّة!!!