د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
حين يُذكر العيد تُستحضر في الأذهان كل معاني الفرح والسعادة، وتجري على الأقلام جميع دلالات البهجة والسرور والحبور، وتتلون الدنيا بالبياض والنقاء، ولا تصغي حينها إلا لضحكات الأطفال، ولا تبصر سوى السكينة تتوشَّح بثيابٍ من جمال.
ولأنَّ الشعراء أصحاب حس عميق، وشعور مرهف، فهم الأقدر على الكشف عن تأثير العيد في النفوس، وانعكاسه على القلوب، وطبعي أن يرسموا بقصائدهم أجمل لوحات الفرح، وأن يعزفوا بنصوصهم أحلى أغنيات السعادة، فتتزاحم الحروف البيضاء، وتتوقد مشاعر السرور، وتصل النفس مع هذا اللوحات البديعة إلى أقصى درجات السرور والحبور.
فهذا ابن الرومي يعلن انتهاء شهر الصيام، ويبشر بظهور هلال العيد، راسماً أجمل اللوحات الفنية في وصفه، فيقول:
ولما انقضى شهر الصيام بفضله
تجلَّى هلال العيد من جانب الغربِ
كحاجب شيخ شاب من طول عمره
يشير لنا بالرمز للأكـل والشربِ
وهذا ابن المعتز، ينتظر العيد بلهفة، ويترقبه بشوق، وقد أعد له حروفه البيضاء، ومفرداته النقية، يقول مرحبا به مستبشراً بإطلالته، مبدعاً في وصفه:
أهلاً بفطـرٍ قد أضاء هلالُهُ
فالآن فاغدُ على الصحاب وبكِّرِ
وانظر إليه.. كزورقٍ من فضةٍ
قد أثقلته حمولة من عنبرِ
ويستثمر بعض الشعراء هذه المناسبة السعيدة للتقرب من الممدوح، من خلال تشبيهه بالعيد، أو الادعاء أن الفرح برؤيته ولقائه كالفرح بالعيد، لأنهم يعون أنه لا مكان في العيد إلا للفرح والجمال، وهذا لا يليق إلا بممدوحيهم، يقول صفي الدين الحلي الأندلسي:
هُنّئتَ بالعيدِ بل هُنّي بكَ العيدُ
فأنتَ للجُودِ بل إرثٌ لكَ الجُودُ
وهذا آخر يعكس المعادلة، فيزعم أنَّ العيد هو الذي يبتهج برؤية الممدوح، وأنَّ هذه البهجة لم يكن لها أن تكتمل وتزين إلا بلقائه:
ليهنك العيدُ إذا وافاك مبتهجاً
بطلعةٍ منك زانَتْ بهجة العيدِ
وهذا ثالث أيضاً يدرك أنَّ يوم العيد يجب أن يكون استثنائيا:
فليهنك العيدُ الجديد ولم تَزَلْ
أيّام دهرِك كلَّها أعيادا
وهذا رابع يسير على خطى السابقين ويؤكِّد دلالاتهم:
وليهنكَ العيدُ في تجديدِ عودتهِ
بل فيكَ يا بهجة الدّنيا نهنّيهِ
أما ابن سهل الأندلسي فلم ينس أن يضيف إلى هذه المعاني وداع رمضان، وتصرم أيامه، وأنه لو قدر له أن يشكر أحداً قبل رحيله لقام بشكر الممدوح:
مضى رمضانُ كثيرَ الثناءِ
عليكَ وودَّع لا عن قلى
فلو كانَ ينطقُ شهرُ الصيامِ
لقَامَ بشكرِكَ بَيْنَ الملا
ولو صافحَ العيدُ شخصاً إذنْ
لصافحَكَ العيدُ إذ أقْبَلا
وغيرهم من الشعراء الذين تلوَّنتْ نصوصهم بالبياض، وتألقتْ بالجمال، وتوشحتْ حروفهم بالنقاء، وتناغمتْ مع استثنائية هذه المناسبة، وتميز هذا اليوم المتفرِّد.
* * *
لكن بعض الشعراء لم يروا فيه أيَّ شيء من هذا، بل بالعكس، رأوا فيه تجديداً للآلام، وتأكيداً على الحزن، واستعادةً للذكريات الكئيبة، فرسموا أبشع اللوحات، وسكبوا الدموع تلو الدموع، وكتبوا نصوصاً تشاؤمية حزينة، وتوشَّحتْ حروفهم بالسواد، حتى لكأنَّ العيد في نظرهم موسم للبكاء والعويل وتجديد الحزن، إما برؤية شاملة، أو بسبب ظرف طارئ.
وأول ما يحضر في هذا السياق نص أبي الطيب المتنبي الشهير:
عيـدٌ بأيّـةِ حـالٍ عدتَ يا عيـدُ
بما مضـى أم بأمْـرٍ فيكَ تجديـدُ
أمَّـا الأحِبـة فالبيـداءُ دونَـهـم
فليـت دونـك بيـداً دونهـا بيـدُ
وما شكوى المعتمدُ بن عباد بعد زوال ملكه وحبسه بخافية على أي مطلع لكتب الأدب العربي؛ حين قال وهو يرى بناته جائعات عاريات حافيات يوم العيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
وكان عيدك باللّذات معمـورا
وكنت تحسب أن العيد مسعـدةٌ
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعـةً
في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العـزّ مـمتهـنٌ
يغـزلن للناس لا يملكن قطميرا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه
ولست يا عيدُ مني اليوم معـذورا
وكنت تحسب أنَّ الفطر مُبتَهَجٌ
فعاد فطرك لل أكباد تفطيـرا
وهذا أبو فراس الحمداني، وقد ضاقت الدنيا عليه، وما عاد شيء في نظره يستحق الابتسامة والفرح، حتى العيد لم يعد بالصديق المنتظر، حيث حضره العيد وهو أسيرٌ ببلد الروم:
يَا عيِدُ! مَا عُـدْتَ بِـمَحْبُوبِ
على معنى القلـبِ مكروبِ
يَا عيِدُ! قَد عُدْتَ علَى ناظِرٍ
عن كلٍ حسنٍ فيكَ مـحجوبِ
قَدْ طَلَعَ العِيـدُ عَلى أهْـلِهِ
بِوَجْـهِ لا حُسْـنٍ وَ لا طِيبِ
أما معروف الرصافي فإنَّ فرحة العيد وبهجته مزيفةٌ ليست حقيقية؛ لأنَّ العيد في نظره ما جاء إلا مجدِّداً للحزن والألم، فليته ما كان:
ألا ليت يوم العيد لا كان إنـه
يجدِّد للمحزون حزناً فيجـزعُ
يرينا سروراً بين حـزنٍ وإنـما
به الحزن جِدٌّ والسرور تصنُّـع
أما البوصيري فهو يشتكي فقره، وأي فرحة في العيد وهو لم يجد ما يطعم فيه أولاده:
صاموا مع الناس ولكنَّهمْ
كانوا لَمِنْ يبصرُهم عِبرَةْ
وأقبلَ العيدُ وما عندهم
قمحٌ ولا خبزٌ ولا فطرةْ
فكم أقاسي منهمُ لوعةً
وكم أقاسي منهمُ حسرةْ
أما أحمد محرم فقد بلغ حزنه المدى، وتلونت هذه المناسبة السعيدة عينيه بلون الدم والهم، فلا مرحبا بهذا الضيف الدموي:
لا مرحباً بالعيد أقبل ركبُـهُ
يطفو ويرسب في عبابٍ من دمِ
يا عيد جددت الهموم بطلعةٍ
أبلتْ بشاشة عهـدك المتقدِّمِ
* * *
أما أنا فسأظل أردد مع الشاعر عبد الغفار الأخرس:
كلَّ يومٍ تراكِ عيناي عيـدٌ
عند مثلي ولا أرى لكِ مثـلا
لا يزال العيدُ الذي أنتِ فيه
عائداً بالسرور حَوْلاً فَحَولا
وكل عام وأنتم بخير.