كان انتخاب أوباما نفسه هو تراجعا عن سياسة القطب الأوحد والتفرد بالقرار الدولي ورسم خارطة العلاقات الدولية بالقوّة، التي سادت سياسات الولايات المتحدة طيلة الحرب الباردة، والتحول الى الاعتراف بالأقطاب الدولية والإقليمية وتفادي الاصطدام الدموي معها، ولم تجد الحرب التي خاضتها القاعدة ومشتقاتها نيابة عن الولايات المتحدة نفعاً في إعاقة تشكّل تكتلات جديدة مناهضة للنهج المافيوي.
ولكن كيف يمكن لأوباما أو من يخلفه تغيير الاستراتيجية المعرفية كلها، سواءً تعليمية او إعلامية، في الولايات المتحدة وحلف الاطلسي ومن يدور في فلكهم، بعد ثلاثمائة عام تقريبا من تزييف الوعي تجاه الحداثة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وما الى ذلك؟
العملية المعرفية خرجت عن تسلّط المؤسسات التعليمية والسلطة السياسية بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فالتعليم والإعلام والمطبوعات والمرئيات وكشف الحدث لحظة بلحظة أصبح متاحا لأي فرد في العالم دون عوائق، أي أن العملية المعرفية بجناحيها – التعليم والإعلام – تصبح في متناول ليس الظالم وحسب، بل المظلوم ايضاً وتدخل قسراً في الصراع العولمي لمرحلتنا الانتقالية الحالية.
بعد انتشار الأجهزة الرقمية وتطورها كماً ونوعاً وانخفاض أسعارها نسبياً، أصبح متاحاً للمتلقّي في جميع أنحاء العالم فرص تعليميّة عديدة أهمها:
1-انبثقت مؤسسات تعليمية الكترونية توفر المعلومات للمتلقي وتوجهه لإجراء بحوث وتجري له امتحانات وتمنحه شهادات وهو في بيته. بالرغم من أن هذه المؤسسات لم يتم الاعتراف بها كلها حتى الآن، ولكنها كسرت الاحتكار المافيوي للتعليم وأصبحت بديلاً مستقبلياً واعداً، بل إن بعض الجامعات المشهورة عالمياً بدأت تؤسس لتنفيذ مماثل كيلا تتخلف عن مواكبة هذا التطور التقني. ولكن ما هو اختلاف هذه المؤسسات عن الجامعات التقليديّة؟ إن الاختلاف الابرز هو انها تحت رحمة المتلقي وليس المتسلط، وبالتالي كي تستمر وتنمو لابدّ لها من إرضاء ذلك المتلقي بإتاحة المعلومة من منظور الظالم والمظلوم معاً، وليس من منظور احتكاري أحادي. 2-يستطيع الباحث او المتلقي او المؤلّف تصفح أي كتاب او بحث او مطبوعة او وثيقة، خلال دقائق بواسطة الحاسوب دون مشقة السفر او الشراء او الحيازة في مساحة من مسكنه لا يقوى عليها. 3-المعلومات التي توفرها التقنية الحديثة تتيح الفرصة لإعادة قراءة أي موضوع تاريخياً دون تلقين من أحد، أي ان التسلط على الوعي وإعادة انتاجه وغسيل المخ الرأسمالي المافيوي ينهار الى غير رجعة، وينبثق وعي غير مقيد بالأكاذيب او التمويه او التزييف، وتصبح المؤسسة التعليمية عارية أمام الوعي الاجتماعي.
4-أصبحت الآراء الناتجة عن تحرر الوعي من هيمنة المؤسسات التعليمية المافيوية، خاضعة للحوار بين عنصرين او مجموعة من العناصر – مهما تباعدت المسافات – خلال دقائق معدودة.
5-هذه العملية التعليمية الحديثة هي عولمة للتعليم دون احتكار.
حاول الرأسمال منذ الحرب العالمية الثانية حصر المنجزات التكنولوجية وخاصّة الإلكترونية منها في المجال العسكري وحسب، وقد نجح الى حدّ ما في التعمية الإعلامية والترويج للخطر (السوفيتي) على أنّه الخطر الأوحد الذي يهدد البشر، ولكن اللهث المافيوي الأهوج وراء الربح يجعل منع انتشار التكنولوجيا عملاً مستحيلاً، كمن يحاول إدخال الفيل في خرم إبرة، حيث إن الحكومات الرأسمالية المتعاقبة هي من يرضخ لمطالب الشركات وليس العكس، وبالتالي حصر التكنلوجيا في المجال العسكري او المخابراتي فقط – كما تشاء الحكومات – أصبح مستحيلاً.
- د. عادل العلي