ما أن تخرج للدنيا حتى تبدأ بمساعدة الأيام على تشكيل قدرك ورسم طريقك وإدراك حاجاتك التي كتبت لك لتكون أنت بذلك الأداة التي تصنع نفسك بنفسك دون أن تعلم.
استعداداً لرمضان وفي زيارة لأحد محلات الأواني المنزلية التي تشكل جزءاً من قدري كامرأة وجدت كؤوس زجاجية مزينة بكلمات عربية كتبت بخط ثُلث بديع، أدرت إحداها بيدي أجلت النظر في الكلمات المتشابكة والحروف المتداخلة لتتجلى أمامي (لا تعذليه فإن العذل يولعه) ولتصعد من أعماقي شهقة بدهشة (ابن زريق لا لا)..!!
كان هذا أول ما قلته ولتنتقل دهشتي بعد ذلك لابني الذي كان يرافقني ويسأل عن سبب توقفي وشهقتي ولحظات التأمل التي عشتها أمام كأس زجاجي مزين بكلمات سقطت في قلبي جمرة وفي نظرته دهشة.
أعدت قراءة شطر البيت وأكملته بعدد ما تبقى من ذاكرتي من تلك القصيدة الموجعة وعلامات الدهشة ما زالت ترتسم على وجه ابني ذس الأربعة عشر ربيعاً الذي يجهل معنى ذلك البيت الذي لم يصادفه أبداً في كتاب (لغتي الجميلة والخالدة) الذي بدل أن يجمل اللغة ويفصلها مزج جميع أركانها وحولها إلى (عصير مشكل) يشربه الطفل دفعة واحدة ويجهل مما يتكون.!
عيون الشعر العربي ونوادره تهذب النفس وتسمو بالمشاعر وتغرس القيم لذلك يجب أن يخصص لها كتاب يحتضنها يُدرس للطلاب بصورة مبسطة للتعلق قلوبهم كما قلوبنا بجمال الأدب ولكن الفرق أننا كنا نبحث عنه وهم لن يدركوه بسبب كل ما حولهم من فوضى إلا بمنهج وقبله معلم تشرب حب الشعر ليشدهم إليه بانكسارات الوجع ولوعة العشق وفخر الكبرياء.
حكاية ابن زريق البغدادي ورحيله من بغداد إلى الأندلس لطلب الرزق حكاية خلدها التاريخ بقصيدة واحدة لا يمكن للعين إلا أن تدمع مع أبياتها ولا يمكن لليقين إلا أن يحضر حين تبحر في معانيها. على صفحات الثقافية لن أحكي لكم مأساته ولن أعرفكم به فكل قارئ عتيق يدرك من هو ابن زريق ولكن قد يصعب على جيل الإعلام الجديد معرفته بمجرد قراءة شطر من قصيدته الوحيدة الفريدة والخالدة ولكنه بلمسة على محرك البحث سوف يدرك من هو شاعرنا وسوف يصدم أن تلك القصيدة هي ما تبقى لتعيش آلاف السنين وتخلد شاعرًا وحكايته في الوقت الذي تتسابق الأرقام على زيادة تغريداتهم ومتابعيهم لكي يتمكنوا من الخلود..!
بين كل هذا يبقى خيال ابن زريق الذي عندما نطق ابني اسمه للمرة الأولى قال (رزيق ) وقصته مع الرزق والرحيل إليه وحرمان حبيبته من العيش معه رغم كل مشاعر الحب التي كانت بينهما هي شاهد على مرارة الحياة وصعوبتها عندما نختار الصعب منها ونسير إليه ونتخلى عن كل تضحية كانت ستقدم في سبيل راحتنا.
في كل مرة اقرأ القصيدة أو أردد أبياتها يتجسد في خيالي لوعة الفراق ودمعة الشوق ولهفة الحبيب ولا يتبقى إلا... (عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه)..!
- بدرية الشمري