المهارة في الترجمة أهم من المعرفة اللغوية، والتقريب approximation هو المحصلة النهائية. هذا ما يحوم حوله Eugene Nida في كتبه حول الترجمة.
لا يمكن أن يستأثر المترجم الواحد بتمام نص ينقله وحده مهما كان موهوبًا أو مبدعا في المعرفة اللغوية، ولا أنسى أسكتلنديَّ الاسم وإنجليزيَّ اللسان وما قدمه من أعمال في الترجمة الشفوية بين الإنجليزية والعربية: ليزلي ماكلوكلين Leslie McLoughlin الذي يعيش في مدينة إكسيتر في منطقة ديفون البريطانية، الذي كنتُ أزوره كثيرًا، فيخبرني بشيء جديد عن اللغات والنقل. هذا الإنسان كبير السن الذي أتقن العربية الفصحى واللهجات العربية لم ينفك عن السؤال في الترجمة وعن الترجمة الشفهية في السياقات المتعددة. كان إبداعه في الترجمة الشفوية أكثر من الترجمة النصية. وكان إبداعه أيضا في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية أكثر أيضا من اطرادها العكسي. بل مازال في حينها يردد ويقول: الترجمة في وعاء دون وعاء (أي في مجال معرفي دون آخر) تتطلب الكثير من الدأب والجهد الهادئين لأجل حلّ مشكلاتها، فضلا عن الترجمة من وعاء إلى وعاء آخر. وأذكر أيضا قوله: لم تسلم الترجمات في الأمم المتحدة من خبراء الترجمة-كونه قد عمل فيها مدة تزيد عن 15 سنة-فبعضها يساء فهمها، وتُعاد حياكتها بخطاب رسمي يحدد النسيان أو الغموض أو سوء الفهم.
يُلمّح يوجين نايدا إلى أن توصيل القيم ومعاني التقريب من اللغة الأولى إلى اللغة الثاني أصعب، وأن هذا التوصيل من اللغة الثاني إلى اللغة الأولى أسهل، وقد يكون العكس، والدقة في ذا أو ذاك تنبع من دقة توصيل الأثر، أي أن العمل الترجمي إذا جعل الأثر الذي يتلقاه مستقبل النص الأصلي هو نفسه أو حجمه الذي يتلقاه مستقبل النص المترجم فإنه بذلك يكون في عداد تمام الصناعة الترجمية، ويظل هذا الأثر هو سر ديناميكيات التكافؤ بين اللغات.
السؤال المهم هنا: ما سبب عدم الإبداع في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية كحال الإبداع في منعكَسها، وفي سياق الشفهي دون الكتابي على سبيل المثال؟ أجاب Eugene Nida وغيره عن ذلك كثيرًا، فالحس sense هو ما يُعوّل عليه، وعندما يتوفّر هذا الحس لدى المترجم ويكون أكثر توافرًا في اللغة الأولى والثانية يعين ذاك التوفر وهذا التوافر على الترجمة الدقيقة بين اللغتين، ونضوج الحس هنا يُمكن ربطه على سبيل المثال بمغزى النكت في اللغات، وبعمق الشعور بفكاهتها، ولذلك إن أحسست بفكاهة النكت في اللغة الثانية، فأنت في مدار ملكية أثرها.
ولهذا الحس عمل كبير في دقة الترجمة من عدمها، حيث يدفع كثيرًا من الاختصاصين في الترجمة إلى استبدال كلمة meaning بـ: sense عند تفسير معاني الكلمات السياقية في النصوص الموضوعة من أفعال الترجمة. وبرغم امتلاك ليزلي ماكلوكلين الحس العربي إلا أن الترجمة من العربية إلى الإنجليزية كانت أقل دقة على خبرته الطويلة في اللغة العربية، كما أنه كان في الترجمة الشفهية أكثر دقة من الترجمة النصوصية، والسبب يعود إلى طيلة تمرّسه بالمهارة الأولى واستمراريتها قرابة 40 سنة تقريبًا.
قال ماكلوكلين مرة: قد تجد أحدًا يتقن اللغة بقدر أقل من حد الكفاية اللغوية، ثم يَسمع جملة من لغة ثانية في موقف محدد ويستوعبها أكثر من آخر يتقنها أكثر من ذلك الحد بكثير. وعلى رغم قلة هذا الموقف وعدم مقبولية توسيعه، إلا أن السر يكمن في إمكانية وقوع تملّك الحسّ الخاص بتلك الجملة الذي اكتسبه غير المتقن يوما ما، ولم يمرّ يومًا على مواقف المتقن. لطالما كانت الترجمة لغزًا، ولطالما كان الحس فيها متطلبًا، إلا أن الحلول في تفسيرهما قد ظهر مع ظهور الدراسات الترجمية في المدونات المتشابهة comparable والمتوازية parallel. لك أن تتخيل لو أن مؤسسة عربية بحثية اشترت كل المدونات المتوازية بين العربية والإنجليزية من اتحاد البيانات اللغوية Linguistic Data Consortium لتُجري دراسات تطبيقية على ديناميكية الفعل الترجمي الشفهي والنصي على مدى 25 عامًا في سياق الأمم المتحدة-مع التأكيد على تَخْفية الفاعلين لها- لتكون بديلًا عن نصوص العين واليد، أي: النصوص الترجمية الفعلية بين كتاب وكتاب، أو بين مقال ومقال، أو بين فقرة وفقرة، ولتكون أكثر دقة وأكبر تفسيرًا للمتغيرات فيها بالكم والنوع، لو أن ذلك حدث؛ كيف ستكون النتائج؟
وللمدونات المتقابلة سر أكبر في كشف أبعاد ذلك الحس غير المربوط بالفعل الترجمي؛ فهي تقوم على تقابل وتشابه وتنافر السياقات التي تكتنز نصوصًا وكلامًا بين لغتين أو أكثر دون أن يكون بينهما فعلا ترجميًا، ولذلك هي مختلفة عن المتوازية التي تبنيها برامج حاسوبية تقوم بمحاذاة النص بالنص داخل النصوص، وبمحاذاة الفقرة بالفقرة داخل النص، وبمحاذاة الجملة بالجملة داخل الفقرة، وبمحاذاة الكلمة بالكلمة داخل الجملة، وبمحاذاة التصريفات بالتصريفات داخل ا لكلمة، بين نصوص ترجمية واقعة فعلا.
قد يكون هذا الكلام كله دعوةً للمتخصصين في الدراسات الترجمية إلى أن يدخلوا مجال المدونات المتقابلة (أو المتشابهة) والمتوازية ليكشفوا الحسّ sense ومتغيراته ونوعياته وكمياته وخصوصياته ومجازاته، بدلا من الوقوف على فواصل نصية تُوسَّع فتكون عن قضايا الترجمة الكلية والتفصيلية.
- د. سلطان المجيول