كنا قد حاولنا تفسير حالة حمزة شحاتة في المقالة السابقة بالاتكاء على مفهوم الوجود ومستوياته لدى هايدجر، حيث ذكرنا أن هايدجر ميز بين مستويين للوجود هما: الوجود الأصيل والوجود الزائف. هذا الوجود الأخير لا يريد فيه الناس العيش مع القلق، فيبحثون عن كل وسيلة للابتعاد عنه، ولا يهمهم معرفة ذواتهم «أو تأكيد تفردهم» فهم لا يتحملون متاهات القلق، ويسعون إلى التخلص منه بالانغماس في الحياة اليومية والروتينية رافضين الخروج من عبوديتهم لها، عازفين عن أية محاولة تقودهم للبحث عن معنى لوجودهم أو بحث عن ماهيتهم الحقيقية.
إنه باختصار ما يمكن التعبير عنه بأنه اختيار الإنسان بين أن يكون (خروفا) سعيدا في الحقل أو إنسانا بائسا (أو بالطريقة التي عبر بها المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم)، ولحسن الحظ أو سوئه فإن الكثرة الغالبة من البشر تختار الاختيار الأول راضية سعيدة، وتمضي في حياتها سادرة، لا تحين لحظة إفاقتها إلا لحظة مواجهة الحقيقة، لحظة مفارقة هذا العالم حين يحين إغماض الوجود لعينيه ويمر شريط الحياة مسرعا أمام العينين للمرة الأخيرة وتدرك أنها قد أضاعت تجربتها النادرة في هذا الوجود، هذه التجربة التي منحت لها مرة واحدة في عمر الكون، مرة واحدة ولن تتكرر، تدرك أنها أضاعتها دون أن تتصل بحقيقة وجودها مرة واحدة وأن حياتها لم تكن سوى لحظات خاطفة مضت بين عبث ولهو وتكاثر زائف لا معنى له. كان الهجوم على الحداثة إذا يتم باسم الأصالة والمحافظة والدفاع عن القديم وعن (الموروث الثقافي والديني) في وجه هذا الغزو الفكري (الحداثي) الجديد وكان الهجوم يتركز مما يتركز عليه كما أشرنا على الغموض والتعقيد واستحالة فهم ما يقرأ من نصوص ولغة (وهذا بحد ذاته يشكل سببا للإحساس بالقلق والتوجس) وكانت دائما ما تتم استعادة لحظات ومواقف من التاريخ للصراع القديم بين الأصالة والتجديد وكان أبو تمام هو المثال المفضل للحداثيين للاستشهاد به وبتجديده الشعري وكانت تشيع في ذلك الوقت في حوارات المتحاورين من التيارين عبارات من مثل (لما تقول ما لا يفهم؟ ورد أبي تمام عليها: لم لا تفهم ما يقال؟) وكذلك القصة المشهورة التي تتحدث عن رجل جاء إلى أبي تمام بهدف تعجيزه وكشف الخلل الذي يقوم عليه بناؤه اللغوي والشعري، جاء لأبي تمام ومعه كأس طالبا منه: صب لي شيئا من (ماء الملام) معرضا ببيته (لا تسقني ماء الملام فإنني.. صب قد استعذبت ماء بكائي) باعتبار أنه لا وجود حقيقي لشيء اسمه (ماء الملام ومن ثم فلا يجب برأيه استخدام هذا التعبير أو هذه الصورة (يكشف ذلك بالطبع عن فقر شديد في فهم اللغة وطبيعتها التي لا يمكن أن تخلو من مجاز واستعارة يتجددان باستمرار مع استمرار اللغة).
كان الهجوم الذي تشنه صحيفة الندوة يقوده رؤوس حربتها الثلاثة في ذلك الهجوم وهم إلى جانب المليباري (سهيلة زين العابدين ويوسف نور عوض).
وكان هذا الملحق يمتنع عن نشر أي شعر حداثي ولا ينشر إلا قصائد الشعر ذات البناء التقليدي وما زلت أتذكر كيف أن بعض الشعراء في بداياتهم كانوا ينشرون قصائدهم التقليدية في ذلك الملحق ثم حين يطورون أدواتهم الشعرية وتصقلهم الثقافة والتجربة ينتقلون إلى كتابة القصيدة الحديثة ومن ثم النشر في الصحف الأخرى.
- محمد الدخيل