د. عبدالحق عزوزي
الذي نحن في حاجة إليه في الوطن العربي، هو الالتزام بالذكاء والدبلوماسية السياسية والاحتكام إلى قواعد العقل السليم. وأظن أن ذلك هو الحكمة والحكمة هنا هي العلم الصحيح الذي لا يقبل الخطأ {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} وهو ليس فقط في مجال الاقتصاد والاستثمار وإنما أيضاً في مجال العلوم الإنسانية، وإلا بغيابها فإن العباد والبلاد قد تصل إلى مستنقع غير منتة من الظلمات والصراعات وستتوقف هياكل الدولة رويداً رويداً اقتصادياً واستثمارياً واجتماعياً بل وثقافياً كما يقع اليوم في دول كالعراق وليبيا، وهذا طبعاً نقيض الحكمة وعنوان التخلف ومسؤولية تجاه التاريخ وتجاه الخالق عز وجل.. فما ذنب الملايين من العراقيين والليبيين الذين يزج بهم في صراعات كان بالإمكان تفاديها، وأخطاء علمية لا تقبل بها العلوم السياسية، ولو طبقت دروس هذه العلوم لنجا الجميع.
ثم إنه ضروري ونحن نتحدث عن الإصلاح أن نتوفر على أدوات ومنظومات لترسيخ قيم العقل والتسامح والاجتهاد وروح التجديد والانفتاح على الغير، ونبذ الكره والتعصب، وتحري النسبية، والتخلي في البرامج التعليمية منذ الابتدائي والثانوي على تقديس ما تفضل به البشر أو رفعه من مرتبة هي مرتبة الرأي إلى مرتبة النص الديني الملزم.. وأقول هذا الكلام لأن المدرسة هي الشركة التي يصنع فيها المواطن وتبنى فيها قيم المواطنة وهي التي تحدد إرادة أي مجتمع ونوعية المواطنين الذين نبتغيهم لمجتمعاتنا: هل نريد مواطنين فيهم روح العلم الصحيح، روح النقد والإصلاح، والبناء والتعمير، أو نريد مواطنين يطلقون طلاقاً بائناً المجتمعات المسلمة ويوجهون إليها السلاح والعتاد باسم التكفير والطاغوت؟. وللمؤسسات الدينية ولعلماء الدين دور كبير في هاته المعركة من أجل التصحيح والإصلاح، وإذا أخذنا مثلاً قضية التكفير التي عليها أصل المشكلة والمشاكل عند الداعشيين والقاعدة وأمثالهم، فلا بد من مواجهتها بتبني استراتيجية علمية دينية ثقافية؛ كما أن لصفوة المثقفين من مفكرين وباحثين وأدباء ومبدعين مسؤولية كبرى وتاريخية، لأن هم من يقع على عواتقهم أن ينهضوا بأداء هذا الدور، وإنجاز هذا المشروع الثقافي التنويري، لأنهم حملة الأفكار ومنتجوها. لكن ضمان نجاحهم في أدائه يتوقف على ما يمكن للدولة أن تقدمه لهم من أسباب مادية ومعنوية مساعدة على النجاح وحسن الأداء.
فإذا صح لنا إذن أن نلخص ضرورة ما يجب الالتزام به في كل قطر من الأقطار العربية في كلمة واحدة لقلنا أن ذلك يكمن في الحكمة، والحكمة هي التي تسقي جذور الإصلاح، وهي التي تبني المجال السياسي العام على أصول لا تحور ولا تبور، وهي التي تجعل من الفكر المسلم عقلا ناهضا، ومن المجتمع مجتمعا سويا، ومن كل الأجهزة مؤسسات تبني وتتكيف مع الواقع والمستقبل.
وهاته الحكمة هي التي تتكيف مع الواقع والمعاش وخصائص كل دولة على حدة، فليبيا بتنوع طوائفها، ليست هي الأردن، ومصر ليست هي السعودية، والمغرب ليست هي تونس، كما أن فرنسا ليست هي بريطانيا ولا هي ألمانيا، كما أن هاته الأخيرة ليست هي الولايات المتحدة الأمريكية، فلكل دولة خصائصها، ولكن ثبت للخاص والعام أن الحكمة هي التي حققت لشعوبها التنمية والرخاء، وأنه في أوطاننا يجب أن يكون الدين للجميع، ولا يمكن لأحد أن يكون وصياً عليه بإدخاله في جراثيم السياسة المتغيرة والمبنية على إدارة الاختلاف.. وخد مثالاً عراق صدام وسوريا بشار وليبيا القذافي، هؤلاء قوم غابت عنهم الحكمة، ولو رزقوا الحكمة لبسط لهم التاريخ بساطاً أحمر في سجلاته ولما ظهرت داعش وأخواتها.. ثم لماذا لم تتطور العلوم الإسلامية ليجنح المختصون فيها إلى التقليد؟.. لأن الحكمة غابت عنهم، فالمشكلة هي مشكلة رؤية وليست أزمة تنزيل. وعندما تفشت ضروب من التبعية تحت دعوة القداسة في بعض الأحيان فلغياب الحكمة، وعندما تمارس على الإنسان العربي والمسلم الضغوط والتوصيات والتقليصات المنبوذة فلغياب الحكمة، وعندما وضع الناس الثابت والمتغير في سلة واحدة فلفقدان الحكمة، فغابت عن أصحاب العلم ضروب المتحول الذي يجب أن يكون موضوعاً للاجتهاد، واستقال الفكر من ساحات الإبداع الضرورية. وعندما تدعي بعض الأحزاب الإسلامية أنها على ملة السلف في العقيدة والمنهاج وأن ما عداها ضلال أو كفر فلغياب الحكمة، مما حجب الهوامش النقدية فيها وعند أتباعها، وأدى إلى تقديس ما يتلفظون به: ليس في الإمكان أصح وأدق مما نحن عليه؟!.. هنا تغيب الحكمة وهنا الداهية العظمى والمصيبة الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة.