قاسم حول
في مهرجان لايبزغ في دورته التي تحمل الرقم 43 لعام 2000 وقف مدير مهرجان لايبزغ للإفلام الوثائقية والقصيرة «الفريد غيلر» وقال في كلمته «لقد جلبنا هذا العام فيلماً تسجيلياً من الصين يحمل عنوان «المسنون» وهو أول أفلام المخرجة الشابة «يانغ تياني» لكن حكومة الصين منعت المخرجة «تياني» من حضور المهرجان، وعندما بحثت في الأسباب التي حالت دون سفر المخرجة لحضور المهرجان وجدت بأنها تعمل في المؤسسة العسكرية للصين، وليست لأسباب تتعلّق بحرية التعبير والثقافة وحرية السفر. المخرجة «تياني» قامت بتصوير موضوع عن المسنين بكاميرا للهواة، والمخرجة الصينية هاوية تصوير ومن الواضح أنها لا تمتلك بعد خبرة سينمائية، فالصورة مسطحة وبدون عمق ولا تتوفر لديها إنارة حتى في المشاهد الداخلية لحياة المسنين في ملاجئهم. كما وأن المونتاج لا يتمتع بإيقاع متناغم مع مضامين المشاهد، فيبدو الفيلم كما لو كان مادة أولية للمونتاج، ومدة الفيلم حوالي الساعتين، ولكن قيمة فيلم «المسنون» تكمن في مضمونه وفي إنسانيته العميقة والساحرة كما تكمن القيمة الفنية في صبر المخرجة ورصدها لمجموعة من المسنين الذين يغادرون بيوتهم ليتجمعوا في مكان ما من الحي الذين يسكنون، ويتحاورون كل يوم عن يوميات الحياة.. ولكن أية حياة! لقد تابعت المخرجة تصوير حياة بعض المسنين داخل بيوتهم. زوجان في آخر أيام العمر لا يقويان على الصعود إلى السرير ويحاول الزوج أن يدفع زوجته دفعاً لأنه هو الآخر لا يقوى على الصعود للسرير ولا يقوى على حملها أو حتى دفعها لتنام، وطول تلك العملية المعقدة نسمع الشجار والسباب بينهما والاتهامات بفقدان الحنان مع العتاب، وعندما ينجحان في الصعود للسرير نسمع صوت الريح قوياً خارج الدار ونرى في الصورة غابات الأشجار تعضف الريح بأغضانها، فيخاف الزوجان مثل الصغار الخائفين من صوت الريح والرعد والبرق وحفيف الأشجار.. مشاهد مؤثرة حتى وإن كانت تفتقد لإنارة كافية توفر فرصة التعبير وعمق الصورة. عندما يعود المسنون في اليوم التالي إلى مكان لقائهم في الحي تهب عاصفة قوية وكان الوقت خريفا فتبدأ أوراق الأشجار تتساقط، كنت أتمنى لو أن المخرجة أنهت الفيلم عند هذا المشهد، ولكن نقص خبرتها في بناء الأفلام وهي في تجربتها الأولى جعلها تذهب بعيداً في تصوير مشاهد خارج الفكرة الأساسية، سيما وأن أحد المسنين قد قال «الريح عاصفة. تساقطت أوراق الشجر. الأوراقلا تستطيع المكوث على الأغصان كثيراً، الأنسان أيضاً لا يستطيع أن يبقى بشكل دائم. هل تستطيع ورقة أن تبقى على غصنها مائتي عام! وهي فكرة جميلة لنهاية الفيلم مع تساقط أوراق الشجر.
الفيلم حصد الجائزة الذهبية وقيمتها عشرة آلاف مارك. لم تتمكن المخرجة أن تأتي لتسلم الجائزة والمبلغ، فقرّرت إدارة المهرجان إيفاد أستاذ المعهد الآسيوي الأنثروبولجي «علم الأجناس - البروفيسور كرستين كراوجر» للسفر للصين لتسليمها الحمامة الذهبية مع عشرة آلاف مارك. وهذا المبلغ يعتبر في الصين ثروة حين تتسلمها نقداً، ويمكنها أن تشتري كاميرا وأن تصور فيلماً طويلاً من إنتاجها.
موضوع المسنين، مثير سينمائياً وإنسانياً، وهو الموضوع الذي أثار أيضاً مخرجة من مصر هي «دينا عبد السلام» فأنتجت فيلماً عن المسنات يحمل عنوان «كان وأخواتها» وقد مرت هي الأخرى في ظروف إنتاج صعبة، تذكرني بتجربة المخرجة الصينية «تياني» مع فارق أن المخرجة المصرية دينا تمتلك وعياً سينمائياً وأكاديمياً في منح الموضوع، قيمة فنية إضافة إلى قيمته الفكرية.
للمخرجة المصرية دينا عبد السلام عدد من الأفلام الروائية القصيرة والأفلام الوثائقية، ولها رؤية وأسباب في إنتاج هذا النمط من الأفلام. وفيلمها الجديد الذي يحمل عنوان «كان وأخواتها» حاولت فيه تسجيل جانب من جوانب حياة مجموعة من السيدات، فهي كما تقول «مشغولة بحيوات كبار السن والعجائز، وأجد فيها مجالاً كبيراً للتأمل والتفكير. وأكثر ما لفت نظري، تقول المخرجة المصرية، في هؤلاء النسوة حبهم للمرح والحياة رغم تقدمهن في السن وتوحدهن، وفي نفس الوقت ترابطهن ما يوفر حالة من الدعم النفسي اللازم لمواصلة الحياة. أردت أن أسجل كل ذلك في الفيلم، لقد شغلتني الفكرة منذ زمن بعيد، ولكنها دخلت حيز التنفيذ منذ عام تقريباً، حين وجدت هذه المجموعة الفريدة من النساء، تأكّدت لي الفكرة وبمساعدتهن أصبحت الفكرة قابلة للتنفيذ. لقد حاولت تسجيل جانب من جوانب حياة مجموعة من السيدات المسنات، فأنا دائماً مشغولة بحيوات كبار السن والعجائز فأنا أجد فيها مجالاً كبيراً للتأمل والتفكير، كما أجدها مليئة بالتناقضات فهم غالباً ما يجمعون بين القوة والوهن والرزانة والطفولة والاتزان والانفعال، وأكثر ما لفت نظري في هؤلاء النساء هو حبهن للمرح والحياة رغم تقدمهن في السن ووحدتهن وترابطهن ما يمنحهن الدعم النفسي اللازم ولمواصلة الحياة. أردت أن أسجل كل ذلك في الفيلم، شغلتني تلك الفكرة منذ زمن بعيد، ولكنها دخلت حيز التنفيذ منذ عام تقريباً، حين وجدت هذه المجموعة الفريدة من النساء، حينها تأكدت لي الفكرة وبمساعدتهن أصبحت الفكرة قابلة للتنفيذ، وأما عن المكان فلقد انطبع في ذاكرتي حين زرته منذ عدة أعوام، فرغم بساطة قرية الصيادين وفقرها إلا أنها تذكر المشاهد بمدينة البندقية أو المدن الشهيرة التي تبنى وسط الأنهار والبحيرات.
وأما عن المكان فقد انطبع في ذاكرتي حين زرته منذ عدة أعوام، فرغم بساطة الصيادين وفقرها، إلا أن لها روحاً فريدة لدرجة أن الفنانين والأدباء صاروا يلقبونها بفنيسيا مستلهمين بذلك سحر البندقية كمرادف لتلك القرية البسيطة.
دينا عبد السلام مخرجة أفلام روائية قصيرة وتسجيلية، حاصلة على الدكتوراه في النقد الأدبي وتشغل وظيفة أستاذ مساعد بقسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، حيث تقوم بتدريس النقد الأدبي والأدب الكلاسيكي والدراسات السينمائية. وهي تكتب الرواية وقد صدرت روايتها الأولى سنة 2012 صور الفيلم عبد الله داو ستاشي وأشرف مهدي الذي قام بعملية المونتاج والمكساج أيضاً. وسجل الصوف رائف علي وألف موسيقى الفيلم شادي الجرف.
عن ظروف إنتاج الفيلم والجهات الداعمة، تقول المخرجة دينا عبد السلام، حين دهمتني فكرة الفيلم، لم يكن لدي أي دعم مادي، وكان من الممكن أن أحاول التقدم بطلب دعم جهات عده، مما كان يعني الانتظار طويلاً، وربما من دون جدوى، إذ إن الجهات الداعمة غالبا ما تكون لها شروط ومتطلبات بعينها في الأعمال المقدمة إليها. شعرت أن الانتظار سيقتل الفكرة ويخمد الحماسة. وقرّرت أن أغامر وأنتج الفيلم بإمكانيات مادية بسيطة. تحمست السيدات اللائي يمثلن محور الفيلم وتبرعن بمشاركتهن الكريمة، وكان هذا أكبر دعم لي، وحصل أغلب طاقم العمل على أجور متواضعة ومنهم من تبرع بجهده دون مقابل كما أمدنا المهندس شريف فائق بإحدى كاميرات الفيلم مجانا، فحين نعمل في نطاق ما يطلق عليه السينما المستقلة أو البديلة تطغي روح الحب والتعاون على فريق العمل ويحاول الجميع تذليل الصعاب. إن تمركز الصناعة السينمائية بالقاهرة يدفع العاملين عندنا في الإسكندرية نحو المزيد من الاجتهاد والتعاون وإنجاز العمل بزمن قياسي . لقد أصبح الفيلم «السكندري» يحقق نجاحات في المهرجانات ويحصد الجوائز. ولا عجب فإن ماضي المدينة يشهد أنها مهد صناعة السينما في مصر، فهي الميناء الذي عبرت من خلاله السينما والمسرح والصحافة إلى ربوع مصر.
عن فرص نشر الفيلم القصير مقارنة بالفيلم الروائي الطويل، ترى دينا عبد السلام «إن فرص الفيلم القصير مقتصرة على المهرجانات أو بعض العروض بالمؤسسات والجهات الثقافية، ومن الصعب عرضه تجارياً في صالات السينما أو بيعه للقنوات الفضائية، لكنني متفائلة بشكل عام بعرض الفيلم في دار الأوبرا أو توفر فرص العروض التلفزيونية ضمن البرامج التي تهتم بهذا النوع من الأفلام مع تقديم تحليل وتقييم لطبيعة الفيلم الفكرية والفنية الجمالية.
وعن إمكانية أن يكون الفيلم القصير جسراً إلى الفيلم الروائي الطويل تقول المخرجة دينا « أعتقد أن للفيلم القصير هوية تميزه تماماً. هو مثل القصة القصيرة أمام الرواية. لقد جرى العرف والمعتقد أن ينظر للفيلم القصير خطوة لعالم الأفلام الطويلة. أعتقد أنها فكرة مغلوطة، فقصر العمل لا يعني قصر الأهمية الفكرية والجمالية، بل إن الفيلم القصير يتطلب قدراً كبيراً من التكثيف والإيقاع ما يشكل لغة تعبيرية أكثر صعوبة أمام المخرج من الفيلم الروائي، وهناك أفلام قصيرة ذات قيمة فنية أعلى من أفلام روائية طويلة.