خالد النزر
هل هناك مردود اقتصادي للشأن الثقافي من آثار وتراث وفنون وغيرها؟. في الحقيقة كانت لفتة مهمة جداً من ضمن النقاط التي تضمنتها «رؤية السعودية 2030», والتي أشار إليها الأمير محمد بن سلمان في لقائه المتلفز. فأولاً المملكة بالفعل تحتوي على إمكانيات ومواقع تاريخية وأثرية تنافس أبرز المواقع المعروفة على مستوى العالم. وهذا ليس من باب الادعاء, بل هو من المسلم به لدى العلماء والمهتمين بتاريخ الحضارات البشرية, فالمنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً هو قلب المواقع الأثرية في العالم, نظراً لعمق تاريخه البشري وتعدد حضاراته, والجزيرة العربية كانت جزء, أو على علاقة بأغلب هذه الحضارات القديمة.
كما أن هناك من المواقع السعودية ما أصبح مسجلاً حالياً في قوائم منظمة اليونسكو للآثار والتراث العالمي وعلى رأسها «مدائن صالح». وبعضها أصبح مسجلاً ليس فقط كآثار عالمية بل أيضاً من ضمن المدن المبدعة في مجال الحرف والمهن اليدوية كالأحساء مثلاً وهي واحدة من ثلاث مدن عربية فقط مسجلة حتى الآن في هذه القائمة.
وما زال بنظري هناك المئات من المواقع السعودية المؤهلة للإدراج في تلك القوائم, خاصة وأن المملكة وحسب بعض الإحصاءات الأولية, تحتوي على أكثر من 6300 موقع تراثي وثقافي.
ليس بدعاً في العالم المعاصر أن تشكل الثقافة والتراث مورداً اقتصادياً كبيراً, بل إن هناك دولاً قائمة فقط على مثل هذه الموارد. وأعتقد أن من النعم الكثيرة التي وهبها الله لهذا البلد, هو ثروة آثارية وتراثية عميقة ومهمة جداً, وللأسف أنها لم تفعّل بالشكل المطلوب في السابق, لا اقتصادياً ولا حتى معرفياً ومعنوياً, إلا بعد تأسيس «الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني» والتي أبلت بلاءً حسناً بنظري حتى الآن نظراً للإمكانيات المحدودة التي توفرت لها.
فالمتاحف الكبرى في العالم والتي تتمتع بأفضل وسائل العرض وأحدث التقنيات, تستقبل سنوياً عشرات الملايين من الزائرين, وتدر المليارات على الدخل القومي الوطني, كذلك المواقع الأثرية والسياحية تدر أضعاف مضاعفة عن ما تدخله المتاحف وحدها. مع ملاحظة أن زيارة المناطق السياحة وهي منتشرة في أصقاع المملكة, تستصحب معها مداخيل أخرى, وأهمها هو انتعاش الإيواء السياحي وتضاعفه (الفنادق, الشقق والفلل الفندقية, المنتجعات, فنادق الطرق -الموتيلات-, النزل والفنادق التراثية السياحية, المخيمات البيئية السياحية... إلخ). وكذلك انتعاش المشاريع الصغيرة الأخرى المرتبطة بهذه المناطق والمواقع السياحية والأثرية (مطاعم, مقاه, محلات تجارية, صناعات يديوية أسرية ...إلخ). وهذا كله بالطبع لو تم استثماره بالشكل الصحيح والاحترافي, فإنه سيخلق آلاف فرص العمل للمواطنين والمواطنات الشباب.
ولكن وجود المتحف أو الموقع الأثري وحده, مهما كان قيّماً ومتطوراً وجاذباً, فإنه غير كافٍ، بل يحتاج الأمر لحزمة من الإجراءات, وأعتقد أن الأمير محمد ألمح إليها في اللقاء. تلك الإجراءات يجب أن تشمل عدداً من الأنظمة والقوانين الخاصة بالسياحة والدخول والتنقل داخل البلد بحرية وأريحية دون مضايقة, بحيث تتشكل بيئة جاذبة وممتعة للزائر, وهذا لا يعني بالطبع التخلي عن الثوابت والأعراف العامة للبلد كما يعتقد البعض. فعلى القلقين والمتحفزين ضد الانفتاح السياحي للأجانب, واعتقادهم بأن ذلك سيؤدي بالضرورة لمفسدة, أن يعلموا بأن السائح الأجنبي لن يأتي إلى هنا ليبحث عن أمور هي متوفرة في بلاده حد التخمة, وكذلك علينا معرفة أن نسبة كبيرة من السائحين سيكونون من داخل المملكة ودول الخليج عندما تتوفر وسائل الجذب والترفيه لهم ولأسرهم وبمستوى يضاهي المعايير العالمية.
علينا أن نعلم بأنه وخلال السنوات القليلة الماضية ومع تنشيط العديد من المهرجانات في مدن المملكة خلال أيام الإجازات والعطل الرسمية، والتي بلغ عددها في الصيف وحده أكثر من 45 مهرجاناً. تجاوزت عوائدها الاقتصادية عشرة مليارات ريال في عام 2014م على سبيل المثال, ووفرت أكثر من 5000 فرصة عمل مؤقتة للمواطنين. فكيف بنا إذا قمنا بعمل سياحي احترافي مخطط له علمياً, ومسخراً له جميع الإمكانيات والدعم اللازم؟.
كذلك فكرة إنشاء متحف إسلامي في المملكة هي فكرة ناهضة ومهمة للغاية, ولا أعتقد بأن هناك دولة أخرى ستكون على نفس المستوى من الملاءمة لمتحف كهذا. وهو متحف سيشكل إضافة نوعية ثقافية للملكة, ومزيداً على أهميته الثقافية والدينية والمعنوية, فإنه أيضاً سيشكل عائداً اقتصادياً مهماً. وإن كنت أتمنى أن يعاد النظر في الموقع المزمع إنشاؤه فيه, فالحقيقة أن متحف كهذا سيكون أفضل مكان له بنظري, هو المكان الذي يرتاده حجاج ومعتمري بيت الله الحرام, والذين جاءت زيارتهم للمملكة من الأساس لأسباب دينية إسلامية.. خاصة إذا علمنا بأنه ومع انتهاء توسعة الحرم المكي, وإكمال مشاريع البنية التحتية لمكة المكرمة بما فيها المترو, فإن العدد المتوقع للحجاج والمعتمرين سنوياً سيصل إلى 20 مليون زائر بحلول عام 2020م, وبلا شك بأن هذا المتحف الإسلامي سيكون أحد الأماكن الرئيسية التي سيحرص الحجاج والمعتمرين على زيارتها. وأما مسألة الزائرين غير المسلمين فيمكن تفاديها بجعل موقع المتحف على أطراف مكة وخاصة على الطريق المؤدي إلى المدينة المنورة.
وأما الرياض كعاصمة للمملكة, فأرى أنها بحاجة لمتحف وطني عالمي ليس مقتصراً فقط على الحقبة الإسلامية, يكون على غرار المتحف الوطني الحالى ولكن بشكل أكبر وأحدث وأكثر تطوراً وتقنية في الجذب والعرض والمستوى وعدد القطع والمواد الأثرية والتراثية المعروضة. وكذلك من المهم أن يضم هذا المتحف الوطني, أكبر مركز وثائقي عن الجزيرة العربية, بحيث تتضافر فيه كل جهود المراكز المتخصصة بما فيها «دارة الملك عبدالعزيز» و»مكتبة الملك فهد الوطنية» و»مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث», وجميع المؤسسات ذات العلاقة.
وإذا تذكرنا بأن شركة أرامكو السعودية على وشك أيضاً افتتاح «مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي» في الظهران, وهو مركز ضخم بمواصفات عالمية عالية, وسيضم أربعة متاحف متنوعة أحدهم خاص بالأطفال. فإنه بذلك تكون قد تشكلت لدينا قاعدة من المتاحف العالمية, ذات ثلاث ركائز موزعة في المناطق السعودية الرئيسية.
الحقيقة هناك الكثير مما يمكن أن يقال في العمل على الشأن الثقافي وتطوير جوانبه المتعددة, وعلاقته بالاقتصاد والسياحة والترفيه والمعرفة والسياسة والإعلام وغيرها, مما لا يتسع له المجال.