اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
منذ أن رجعت نفسه المطمئنة، إن شاء الله، يوم الجمعة 27-8-1437هـ، الموافق 3-6-2016م، راضية مرضية في أحد مستشفيات (فونكس) في ولاية أريزونا الأمريكية، حتى مواراته الثرى يوم الجمعة أيضاً 5-9-1437هـ، الموافق 10-6-2016م، في مسقط رأسه بمدينة لويزفيل بولاية كنتاكي الأمريكية، طاوية أربعة وسبعين عاماً من حياة حافلة بالعمل والعطاء والإنجاز؛ أقول، منذ آنئذٍ، تناقلت وسائل الإعلام العالمية خبر وفاة الأخ المصلح الحاج محمد علي، وتزاحمت في نقل حفل تأبينه لحظة بلحظة؛ ورافقت الجثمان حتى مثواه الأخير، محيطة به من كل جانب، من ولاية أريزونا حيث فارق الدنيا الفانية، حتى ولاية كنتاكي حيث ووري الثرى، ثم لمسافة تسعة عشر ميلاً حول مدينته لويزفيل، في جولة الوداع الأخير. معدِّدة إنجازاته، مثنية على عطائه الثَّر وما قدمه من خدمة جليلة لعقيدته وللبشرية كلها.ليس هذا فحسب، بل اصطف الناس في طوابير طويلة بمئات الآلاف على جانبي الطرق التي سلكها موكب الجثمان حتى مرقده، وهم يهتفون باسمه، يصفقون له، يترحمون عليه، يدعون له، يذرفون عليه الدمع الثخين وينثرون الورود على نعشه، معبرين عن فجيعتهم برحيل رجل كبير فيهم مثله. واجتمع في حفل تأبينه الناس من كل الديانات والمذاهب والأعراق والفئات الاجتماعية، من الخفير حتى رئيس الجمهورية، وتبادل الجميع ما لديه من حكايات مدهشة أو مواقف طريفة مع هذا الرجل المسلم الصادق، فامتزجت دموع الحضور بضحكاتهم، وتعالت الأصوات بكل لغات العالم، تدعو له بالرحمة والمغفرة.
على صعيد آخر، سالت أقلام الإعلام العالمي في كل أركان الدنيا، تسرد قصة حياته وكفاحه ومعاناته، ثم صعود نجمه وما حققه من بطولات في الحلبة لا نظير لها في تاريخ الملاكمة في العالم؛ إضافة إلى سجله الحافل بالعمل والإنجاز في أعمال الخير خدمة للإنسانية، دون إغفال لاعتداده بعقيدته وعرقه، واعتزازه بكل ما وهبه الله من خير أو امتحنه به من مصائب، منذ أن أبصرت عينه النور في 17-1-1942م، حتى أفول نجمة في 3-6-2016م.
ولهذا، أجدني اليوم في غنىً تام عن اجترار ما سبقني إليه الآخرون من سرد سيرة هذا الرجل الكبير، والنحيب عليه، والأسف على رحيله، والإشادة بإنجازاته، كحال الذاكرة البشرية عموماً، والذاكرة العربية على وجه الخصوص، التي لا تدرك قيمة ما لديها من كنوز بشرية إلا بعد رحيلها.
أقول، سأتجاوز هذا كله، لأقف عند أهم الدروس والعبر التي ورثناها، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال، عن هذا الرجل الفريد، الذي أرجو الله صادقاً أن يجعله ممن قال فيهم، سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فيكون من أصحاب الحظ العظيم، الذين يدخلهم ربهم: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}.
أجل، كان الأخ الحاج محمد علي، رحمه الله وجعل الجنَّة مثواه، رجلاً أمَّة كاملة تامَّة، قاتل بقبضته القوية وبفكره النيِّر المتقدم وبصوته وبهمَّته العالية ونفسه الكبيرة التي لا تعرف حدوداً للطموح، فما أن تحقق شيئاً، حتى يشرئب عنقها لغاية أسمى. مستمدَّاً هذا كله من إيمان راسخ بالله سبحانه وتعالى، وتسليم له في كل شيء، واعتزاز بهذا الدِّين العظيم، وحرص شديد على إتباع هدى رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً يصدقه العمل. فكم سمعناه يردِّد معتزَّاً: (أنا مسلم أسود). رافضاً أن يكتب اسمه تكريماً له مع المشاهير في هوليوود، غاية الكل، على نجمة في الأرض تدوسها الأقدام. لأن اسمه (محمداً) على اسم رسوله الذي يؤمن به، ولا يرضى أن يهان اسمه. ولهذا اضطر المسؤولون لكتابة اسم (محمد علي) على نجمة مرسومة على الحائط، إرضاءً لمحبيه، وأيضاً تقديراً لـ(محمد علي) بسبب ما عرف به من تسامح ديني؛ فرفع بذلك ذكر نبيِّه. في حين يفتقر اليوم كثير ممن اكتسبوا الإسلام بشهادة الميلاد، في كل دول العالم الإسلامي دون استثناء، إلى مثل هذه المبادئ الصادقة العظيمة؛ بل أكثر من هذا: ربما توارى بعضهم أحياناً خجلاً من الغرب، حتى لا يوصف
بـ(التخلف) إن هو تمسك بثوابت عقيدته.
اعتنق هذا الرجل الكبير الإسلام، وسرعان ما أدرك أن دينه الجديد يَجُبُّ ما قبله، فقرر أن يقطع صلته بكل ماضيه قبل إسلامه، مما يتعارض مع عقيدته، فبدأ بتغيير اسمه من كاشيص مارسيلوس كلي جونيور، إلى محمد علي، مؤكداً بكل فخر واعتزاز أن: (كاشيص كلي اسم عبودية، لم أختره لنفسي، ولا أريده. أنا محمد علي). فزار المملكة وقضى فيها شهراً، وحجَّ واعتمر، وصلى في المسجد الحرام، وزار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتشرَّف بالسلام عليه، وصلى في مسجده؛ كما صلى في القدس الشريف وفي الأزهر.
فامتلأت نفسه بالإيمان بالله، وتغلغل اليقين بعيداً في كل خلية من جسده، وأدرك معنى الحرية التي وهبها الخالق سبحانه وتعالى لعباده بالتساوي، حين أكَّد بوضوح: (أعرف طريقي، وأدرك الحقيقة، ولا أريد أن أكون ما تريده أنت. أنا حر أن أكون ما أريد). مضيفاً أن قوة إيمانه بالله وحسن ظنِّه به وثقته فيه سبحانه، كانت هي الضربة القاضية التي مكَّنته عبر تاريخه من إلحاق الهزيمة بخصومه: (ضعف الإيمان وعدم الثقة، هو الذي يجعل الآخرين يهابون لقاء الأبطال. أما أنا، فأثق بنفسي بسبب قوة إيماني). والتزم دائماً قول الصدق: (حتى في المزاح، التزم قول الحقيقة.. إنها أفضل نكتة في العالم دون منازع).
وأدرك الأخ الحاج محمد علي بسرعة مبادئ عقيدته الجديدة، فرفض الانضمام إلى الجيش الأمريكي في حربه ضد فيتنام، مؤكداً بقناعة راسخة: (لن أخذل عقيدتي، شعبي أو نفسي؛ فأتحول إلى أداة لاسترقاق أولئك الذين يقاتلون من أجل العدالة، الحرية والمساواة). مع إدراكه التام لما يمكن أن يترتب على قراره هذا من تبعات قد تكون وطأتها ثقيلة عليه. وبالفعل، صدق حدسه. فتم تجريده من كل ألقابه، وحرم من المشاركة في رياضة الملاكمة لخمس سنوات ونصف السنة. غير أنه لم يأسف على شيء.. إنه صدق الإيمان بالله والتوكل عليه سبحانه. ولأنه كان يعتقد يقيناً أن: (الإنسان يعيش مرة واحدة، وعمَّا قريب سيصبح ماضياً، وما نعمله لله هو الذي يبقى). لم يكن رجلاً مثله ليضيع دقيقة من وقته الثمين، فانخرط في مؤازرة بني جلدته السود، يناصر قضاياهم، وينادي بحقوقهم، ويحثهم على الاعتزاز بنفسهم، وجمال خلقتهم لأنهم صنع الله الذي أحسن كل شيء صنعه، والإيمان بقدراتهم وحقهم في الحياة، وعدم احتقار ذاتهم أو التهيب من البيض، وأحبهم بكل صدق؛ بل كان يصرح بحبهم في كل محفل، في وقت كان السود لا يجرؤون حتى على حب أنفسهم.
وصحيح.. كان محمد علي يدين نزعة بلاده العنصرية وحروبها الخارجية بغرض السيطرة وفرض السيادة لاستغلال الشعوب الأخرى، إلا أنه مع هذا، لم يرفع السلاح في وجهها، أو يؤلب عليها العالم، ولم يفكر للحظة في خيانة بلاده أو إشعال الحروب فيها. بل كان يرى ألاَّ أحد يحب بلاده وشعبه مثله، لاسيما موطنه الأصلي، حيث مسقط رأسه في لويزفيل بولاية كنتاكي، حيث يرقد جثمانه اليوم.
فلا غرو إذن أن يجد كل هذا الدعم والتقدير والاحترام من مختلف رؤساء أمريكا، إذ دعاه الرئيس جيرالد فورد إلى البيت الأبيض مرتين، وبعثه الرئيس جيمي كارتر في مهام دبلوماسية، ومنحه الرئيس جورج دبليو بوش وسام الحرية الرئاسي، الذي يعد أرفع وسام مدني في أمريكا، ومنح أيضاً جائزة الجمعية الوطنية لتقدم الملونين، واختارته الأمم المتحدة عام 1998م، مبعوثاً للسلام بسبب جهوده من أجل نهضة الشعوب؛ ورأى فيه باراك أوباما مصدر إلهام، دلف منه إلى البيت الأبيض كأول رئيس أسود في تاريخ أمريكا لدورتين متتاليتين.
وعلى العكس تماماً، شكلت الفترة التي حُرم فيها الأخ الحاج محمد علي، المسلم القوي، من ممارسة نشاطه الرياضي، وجرِّد فيها من ألقابه، أساساً راسخاً لمسيرته المشرقة بعد اعتزاله، على النقيض تماماً مما أراده له خصومه.
فانطلقت مسيرته الظافرة بعد اعتزاله في أعمال الخير وخدمة الإنسانية من كل الديانات والأعراق، موظفاً اسمه وسمعته لمساعدة ضحايا الفقر والمجاعة والمضطهدين في العالم، مجسداً نموذجاً صادقاً لتعايش الأديان وقبول الآخر، وتعاون الحضارات مع بعضها البعض، واستفادة هذا من ذاك وتكاملها.. لا تنافرها وتصادمها. ويرى في الاختلاف في كل شيء، نعمة عظيمة، وقوة حقيقية، وحكمة إلهية ما زال البشر عاجزاً عن فهم كنهها.
ولهذا كان فخوراً بما خلقه الله عليه من هيئة وجنس ولون، وبما هداه إليه من معتقد، دون أن ينتقص شيئاً من هيئة الآخرين أو جنسهم ولونهم أو يقدح في عقيدتهم، بل كان يرى أن العالم كله ينبغي أن يكون أسرة واحدة، تنشر المحبة والسلام، ويتعاون أفرادها على البر والتقوى، بعيداً عن تلك الجسور الوهمية التي شيَّدها الساسة والسماسرة وعصابات المافيا وتجار آلة الموت، مؤكداً أن الله سبحانه وتعالى، إذا شاء أن يخلق الرجال كلهم على هيئة أكمل رجل في العالم أوصافاً، لما أعجزه. وإن أراد أن يخلق كل النساء على هيئة أكمل امرأة في العالم أوصافاً، لما أعجزه ذلك أيضاً سبحانه. ولو أراد أن يكونوا كلهم على دين واحد لما أعجزه أيضاً. مؤكداً فهماً حقيقياً لقوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقوله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام، مخاطباً رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
وقول الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: (لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى). إلى غير ذلك مما جاء في كتاب الله الكريم، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، من آيات بيِّنة وأحاديث شريفة، تؤكد المساواة والعدالة بين البشر، وألاَّ تفاضل إلا بالعمل الصالح.
ولهذا، عندما سئل في إحدى المحاضرات عن سبب تحوله من المسيحية إلى اعتناق الإسلام، وإذا ما كان مسلماً قوياً مثلما هو ملاكم قوي؛ أجاب: (أنا قوي بالله، ليس بعضلاتي. قوتي بسبب تمجيدي لله، لا أتحدث عن قوتي ولا عن مالي أو غيرهما، بل دائماً أُعظِّم الله وأُعْزِي كل شيء في حياتي لله سبحانه وتعالى.. ولهذا أنا قوي بالله).
ثم تحدث عن كل الديانات والرسل، دون أن ينتقص من دين أو نبي مرسل، أو يكفِّر أحداً؛ مشيراً إلى أن العيب في بعض ممن يعتنق هذا الدين أو ذاك، غير أنه وجد أن الدين الإسلامي هو الأنسب لما يؤمن به من مثل ويعتقده من قيم في الحياة؛ ولهذا اعتنقه ورأى فيه خياره الأفضل، مثلما الآخرين يختارون ديانات أخرى.. رد بليغ، في غاية المنطق والذكاء، بعيداً عن التكفير والتخوين وزرع الكراهية والبغضاء. مستطرداً أن دينه الجديد مكَّنه من الجلوس مع ملوك وزعماء ورؤساء وقادة كبار؛ وحيثما ذهب في العالم الإسلامي شعر أنه أخٌ للجميع. بينما لم يستطع الذهاب إلى كنائس البيض في أمريكا، لأنه أسود.. مستدركاً أن هذا ليس بسبب الدين المسيحي، بل بسبب جهل بعض ممن يدينون به.
أجل، كان الأخ الحاج محمد علي مسلماً حقاً ملتزماً في كل شؤون حياته، حتى في أسماء أولاده وبناته التسعة: مريم، ليلى، رشيدة، جميلة، هناء، إسحاق... إلخ. ومع هذا، التفَّ حوله الناس من كل الديانات والأجناس، وغمروه بحب لا مثيل له، لأنه بذل كل ما في وسعه، وضحى بكل شيء لكي يجعل العالم أفضل مما هو عليه من حقد وكراهية وكيد وتآمر واستغلال للضعفاء والمساكين.
أجل، كان الأخ الحاج محمد علي، رسول سلام ومحبة، محباً للجميع، أوقف كل ما لديه من أجل خدمة دينه واتباع هدي نبيِّه، عليه أتم الصلاة وأزكى السلام.. كان موئلاً لكل الخصال الحميدة والصفات الطيبة الكريمة، نموذجاً رائعاً للتسامح والمحبة؛ فقد كنا نراه دائماً بعد كل نزال يجهز فيه على خصمه، يركض نحوه، فيعانقه مواسياً ومسلِّياً. وبسبب سمو أخلاقه هذا، واحترامه للجميع، لإنسانية الإنسان، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، عشقه الجميع، حتى أولئك الذين لا يكترثون لرياضة الملاكمة. ولهذا لم يتجاوز صديق عمره، جورج فورمان الملاكم الشهير، الحقيقة عندما قال يوم وداعه: (لا أقول إنه أفضل ملاكم في العالم على مر التاريخ، بل إنه أعظم إنسان عرفته طيلة حياتي).
نعم، لقد أيقظ الحاج محمد علي وعي البشرية لكي تنتبه لشيطان العنصرية، ولفكرة الحرب الحمقاء، وجَذَّر في الناس الحاجة إلى ترسيخ الاحترام المتبادل، ونبذ الخلافات، أيَّاً كانت.
ومثلما انتصر على خصومه بالضربة القوية القاتلة، هزم مرض باركنسون، الذي كان يقول عنه بإيمان الرجل الصادق: (أصابني الله بمرض باركنسون لأدرك أنني مجرد رجل عادي، كسائر الرجال الآخرين، لدي نقاط ضعف مثلهم تماماً)، وظل بطلاً لأربعة عقود تقريباً، حتى بعد ترجله عن صهوة الحلبة؛ تشهد له بذلك أعمال كثيرة، تجل عن الوصف، ليس أقلها مركزه لعلاج مرض باركنسون في مدينة فونكس بولاية أريزونا، وفرعه في مسقط رأسه بمدينة لويزفيل بولاية كنتاكي، حيث ووري الثرى.
فلا عجب أن رأينا كل تلك الحشود الغفيرة تجتمع في وداعه الأخير. وتشبيه مؤبنيه له بالعباقرة الذين يظهرون مرة كل ألف عام، مثل شكسبير وبيكاسو والزعماء الأبطال مناصري حقوق الإنسان (الحقيقية)، ليس على شاكلة مزاج الأمم (غير المتحدة)، والعدالة الاجتماعية الذين ضحوا بحياتهم في سبيل ما يؤمنون به من مبادئ، مثل مواطنه مارتن لوثر كنج، والزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، وغاندي والأم تريسا في الهند.
أجل، كانت جنازة القرن المهيبة التي ودَّع فيها العالم الأخ الحاج محمد علي، أسطورة الأساطير، رسالة سياسية بامتياز، ومرآة صادقة لحياته، شهدت حشوداً غفيرة؛ وتحدث في حفل تأبينه محبوه من كل لون وفن، كما أسلفت، وكل له مع الحاج محمد علي حكاية لا تنسى، وفي سيرته درس وعبرة. قرئ في حفل تأبينه القرآن الكريم، وتليت التراتيل اليهودية، والصلوات المسيحية. غير أن أكثر ما لفت انتباهي هو كلمة الحاخام اليهودي الأصل، الأمريكي الجنسية، رابي مايكل ليرنر، رئيس تحرير مجلة الأديان اليهودية (تيكون) التي كانت أكثر الكلمات الجامعة المؤثرة، بإجماع كل المراقبين. وأرى فيها وثيقة عالمية مهمة لمعنى التعايش والتسامح والاحترام المتبادل، بعيداً عن النظرة العنصرية القاصرة؛ إذ عبَّر فيها نيابة عن جميع يهود أمريكا، مشاطرتهم الأحزان بهذا الفقد الجلل للأفارقة الأمريكيين ولكل المسلمين في العالم أينما كانوا، مؤكداً رفضه التام لمزايدة السياسيين أو غيرهم الذين يحتقرون المسلمين ويقللون من شأنهم، بسبب فئة قليلة تعيث في الأرض فساداً، مشدِّداً على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وإنهاء الاستيطان في الضفة الغربية؛ مؤكداً لنتنياهو أن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام للإسرائيليين.
وبالمقابل، مناشداً (الرئيسة الأمريكية القادمة) بضرورة إغلاق القواعد الحربية المنتشرة في العالم، واستعادة الجنود إلى أرض الوطن؛ مؤكداً أيضاً أن سياسة القوة والهيمنة على العالم، جربها الأمريكيون لأكثر من عشرة آلاف عام، إلا أنها لم تجدِ نفعاً. ولكي تسود أمريكا العالم، عليها أن تكون معطاءة وداعمة للآخرين، لا قوية باطشة، منوهاً بضرورة تحرير السود من السجون ومعاملتهم بالعدل والمساواة، ومحاربة الفساد، ومحاسبة المفسدين وتقاسم الثروة مع الغالبية الساحقة من الفقراء والمعدمين... إلخ؛ مهنئاً المسلمين بصيام شهر رمضان، مؤكداً أن محمد على كان مقاتلاً عظيماً من أجل العدالة والسلام. ولكي يثبت محبوه مكافأته، على كل واحد منَّا أن يحذو حذوه، فيكون أداة بناء، لا معول هدم. خاتماً كلمته بالصلاة والسلام على الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم. هكذا علم الأخ الحاج محمد علي، رحمه الله، العالم أن التسامح، واحترام حرية المعتقد التي كفلها الله لعباده، هو كلمة السِّر لعالم آمن، ينعم بالمحبة والسلام، ويتعاون على البر والتقوى؛ لا على الإبداع في أذى بعضه بعضاً، والإساءة والانتقاص.
أجل، أصبحت حياة محمد علي اليوم دليلاً لنشر المحبة والسلام، ودرساً للعالم، كما أراد لها أن تكون، ونموذجاً لما يجب أن تكون عليه حياتنا كلنا، ورسالة مهمة في الحياة لكل البشر. فأجبر الناس على حب بعضهم بعضاً، ونبذ الكراهية والعنصرية والعنف والجهل والتطرف، الذي دفع البعض لذبح والديه في أعظم الأيام وأعظم الشهور. منوهاً إلى أن الاختلاف يمكن أن يصنع فرقاً هائلاً لصالح البشرية، لا خصماً عليها؛ إذ ليس العالم أسود وأبيض فحسب، فثمَّة أشياء كثيرة مدهشة في حياة البشر، يجب أن ينتبه الناس لتوظيفها من أجل سعادة الجميع.
وقد حقق المجتمعون اليوم في حفل تأبينه رغبته، إذ يقول: (يود كثير من المؤيدين والمعجبين تشييد متحف تثميناً لإنجازاتي. غير أنني أرغب في أكثر من بناية تحفظ ذكرياتي: مكان يحفِّز الناس ليكونوا على أفضل حالة ممكنة من الوفاق والتضامن، يشجعهم على احترام بعضهم بعضاً). مؤكداً، مع كل ما حققه من إنجاز، بتواضع المؤمن الصادق: (أنا رجل عادي، أعمل بكل ما أوتيت من قوة لتطوير ما منحت من موهبة).
أجل.. هكذا كان الراحل الكبير الحاج محمد علي، بطلاً داخل الحلبة وخارجها، كان أمة في رجل، حقق لدينه ولأمته الإسلامية ما عجزت عنه آلة الإعلام العربي والإسلامي على ضخامتها؛ بل قُلْ ما عجزت عنه جيوش الإرهابيين، تجار الموت والدمار، أعداء الإنسانية الجهلاء من القاعدة إلى الدواعش وإخوانهم من فصائل مسلحة وتنظيمات همجية رعناء، يدعي كل منها أنه يمتلك مفاتيح الجنَّة وأغلال النار؛ نثرت الرعب والخراب والدمار، واعتدت على الأنفس البريئة والحرمات، وهتكت الأعراض، في ممارسات دنيئة، أخجلت الشيطان، لا تمت لأي دين بصلة. هذا فضلاً عن تدمير البنية التحتية وهدر الثروة، إذ يقدر المختصون حجم اقتصاد الإرهاب في العالم بأكثر من خمسة تريليونات دولار أمريكي؛ وتخسر اليوم بعض الدول التي تنشط فيها آلة الإرهاب البكماء، أكثر من (12) مليون دولار شهرياً. وفقدت الدول العربية بسبب (خريفها العربي الماحل) ما يزيد على مائتي مليار دولار، وخسرت أمريكا إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م الشهيرة، نحو (120) مليار دولار، إلى غير هذا من خسائر لا تحصى في كل دول العالم، دون استثناء. فضلاً عن الأرواح البريئة التي أزهقت ظلماً وعدواناً، وتفنَّن الإرهابيون في تعذيبها وقتلها، من حز للرؤوس وسحل وحرق وإغراق ودفع من سطوح البنايات الشاهقة... إلخ. ونتيجة لهذه الممارسات البشعة، صار الغرب يلصق كل التهم بالمسلمين، واستعرت مشاعر كراهيته للإسلام، مما جعل كثيراً من أفراد الجاليات الإسلامية هناك يدفعون ثمناً باهظاً، بل يتوجسون خيفة إثر كل عملية إرهابية هنا أو هناك، والأمثلة أكثر من أن تحصى، وليس أقلَّها ما حدث في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا مؤخراً الذي أودى بحياة أكثر من خمسين شخصاً، وأدخل أكثر منهم غرف العناية المركزة في المستشفيات. فأين هؤلاء الجهلة الغوغائيون من الحاج محمد علي، الذي قدَّم للإسلام والمسلمين، خدمة عجزت عنها جيوش جرارة، مع أنه أنجز كل هذا تقريباً، بيدين مرتعشتين، وجسد هزيل، بالكاد يقف على قدميه ويحفظ توازنه؛ وصوتٍ واهنٍ، يأتي ويغيب، بين حين وآخر.
وبعد: أتمنى صادقاً على هؤلاء الإرهابيين المتطرفين، إعادة النظر في نهجهم المشؤوم هذا، وتصويب رؤيتهم لمعنى الدين والرحمة والتسامح وغيرها من الفضائل ومكارم الأخلاق التي بعث الله بها رسوله، عليه الصلاة والسلام، رحمة للعالمين. وليقتدوا، إن لم يكونوا قادرين على الابتكار، برجال مثل محمد علي هذا، ووران بافيت، وبيل قيتس، وبيليه الذي عرض كل مقتنياته الخاصة الثمينة عبر مسيرته الرياضية للبيع لمساعدة الأطفال، والدكتور محمد يونس مؤسس بنك (قرامين) في بنغلاديش لمساعدة الفقراء، الذي نال بسببه جائزة نوبل، وغيرهم كثير حتى من غير المسلمين في الغرب الذين لا يحجرون حرية الناس، ولا يتدخلون في خياراتهم، فجاءوا برئيس أسود لأول مرة في تاريخ أمريكا، بل انتخبوه لدورتين متتاليتين، كما أسلفت، وأصدروا أوراقاً نقدية عليها صورة امرأة سوداء لأول مرة أيضاً في تاريخ البلاد، ومغنٍ أمريكي يرفض مليون دولار ليبقى على مسيحيته، فيعتنق الإسلام إيماناً وتسليماً برسول الله ويرطِّب لسانه بذكر الله وتلاوة القرآن. وانتخبوا في بريطانيا صادق أمان الله خان، كأول مسلم من عائلة فقيرة عمدة لمدينة لندن التي تعد أهم عاصمة أوروبية وأعرقها. وصام بعضهم رمضان مع المسلمين، مع أنه على دينه. وصحيح، كتبت كثيراً عن نظرية المؤامرة، وما أزال على قناعتي بشأنها، لأن الساسة الغربيين هم الذين يمارسون هذا، في حين أن السواد الأعظم من شعوبهم لا تقر سياستهم الانتهازية.
ولا يفوتني هنا أن أدعو أيضاً مشاهير مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وأثريائها للسير على نهج أولئك المشاهير الغربيين الذين يحرصون على تحمل دورهم في المسؤولية الاجتماعية في بلدانهم أو خارجها، بدلاً من تصنيع إطارات سيارات مرصَّعة بالذهب عيار (24) قيراط والأحجار الكريمة، وتزيينها بالجواهر النفيسة، بحيث يبلغ سعرها ستمائة ألف دولار أمريكي. وأحذية أيضاً مطعمة بالذهب عيار (24) قيراط؛ إضافة للبلاتين والبلاديوم والفضة. يكفي سعر فردة حذاء واحدة منها، أعزكم الله، لتغيير حياة أسرة متوسطة، وانتشالها من الفقر إلى الأبد. وأعود مؤكداً مجدداً: هذا يندرج في إطار المؤامرة التي انطلت على كثير منَّا في بلداننا العربية والإسلامية.
وقبل أن أختم، أتمنى من كل قلبي ألا يذكر أحدنا أخانا الحاج محمد علي بغير هذا الاسم، لأن اسم (كلاي) على وزن (Fly) الذي شاع خطأً أو (كلي- Clay) على وزن (Play) كما ينطق في موطنه يؤذيه، ولهذا عجبت لكل الذين كتبوا عنه (محمد علي كلاي) خالطين بين اسمه الذي اختاره لنفسه بعد إسلامه، ويعتز به، وبين اسم العبودية الذي فرض عليه ويكرهه. وكان عجبي أعظم من أولئك الذين نبشوا في تاريخه قبل إسلامه، وذكروا أشياء تسيء إليه من (باب الموضوعية) كما زعموا. فمعلوم بالضرورة أن الإسلام يجب ما قبله، ومعلوم بالضرورة أيضاً أنه لا عصمة لغير نبي. ولو كانت رائحة أخطائنا تفوح، لما جالسنا أحد.. واذكروا محاسن موتاكم، بل حاولوا أن تكونوا جزءًا مضيئاً من شخصية محمد علي، ولو جزءًا يسيراً على قدر الجهد، مع كل ما نبشتموه عنه مما لا داعي له. إذ يكفيه فخراً أنه استطاع توحيد كل الأديان حوله واتفاق الجميع عليه، في حين تفرقنا نحن في البلدان الإسلامية والعربية إلى مذاهب وطوائف ونحل، يقاتل بعضها بعضاً، مع أن نبي الله إبراهيم عليه السلام لم يفكر في قتل أبيه الكافر، أو حتى مجرد إيذائه، بل أكثر من ذلك: وعده أن يستغفر له ربَّه: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً)، وكذلك لم يكن نبي الله نوح عليه السلام يفكر في قتل ابنه الكافر، بل ناداه لينجو بنفسه من عذاب الله: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)، وكذلك لم يقتل نبي الله لوطاً عليهم السلام جميعاً زوجته الكافرة. والحقيقة، إذا تأمل هؤلاء الحمقى الذين استحلوا الدماء والأعراض، القرآن كما ينبغي، لما وجدوا خياراً أفضل من أن يكونوا مثل فقيدنا الكبير الحاج محمد علي. من جهة أخرى، أناشد المعنيين في كل بلدان العالم العربي والإسلامي أن يخلدوا اسم هذا الرجل الصالح بمساجد وجامعات ومستشفيات وحتى طرقاً رئيسية، وأندية ثقافية ومدناً رياضية، أو منافسات كأن تخصص بطولة رياضية باسمه تقام كل أربع سنوات تشترك فيها جميع الدول العربية والإسلامية، على غرار الألعاب الأولمبية. لكن انتبهوا: ينبغي أن نكتب على تلك المؤسسات اسمه الذي يحبه ونحبه نحن أيضاً (محمد علي) هكذا، دون (كلاي) أو (كلي) كما فعل كل من كتب عنه، للأسف الشديد.
ففي هذا حفظ لما أسداه الرجل من خدمة عظيمة إلينا جميعاً ولعقيدتنا، وتشجيعاً للآخرين للسير على نهجه. وليس صدفة أن يفارقنا يوم الجمعة أفضل الأيام وأشرفها، وليس صدفة أيضاً أن يوارى جسده الثرى يوم الجمعة وفي رمضان، وكم كنت أتمنى أن تقام صلاة الغائب على روحه الطاهرة في جميع دول العالم الإسلامي. وإن كان موت العالم يحدث ثلمة في الدين، فرحيل الحاج محمد علي أحدث اليوم صدعاً كبيراً في جسد أمة الإسلام. وصحيح.. إنه غاب عنَّا بجسده، إلا أنه لم يمت أبداً، سوف يظل محمد علي حيّاً في كل واحد منّا.
ألا رحم الله أخي الحاج محمد علي، لا أقول بقدر ما قدم لدينه ولأمته الإسلامية، بل بقدر رحمة الله التي وسعت كل شيء، إنه على كل شيء قدير.