حقيقة نعلمها جميعاً بأن الدنيا إلى زوال، وإذا كان اليوم فساداً فغداً صلاحٌ. نعم الأحوال تتغير، والأمور تتبدل،
كل شيء يتغير حتى أنت تتغير حيث تغيرت الآن عما كنت طفلاً، أليس الشباب بعده كهولة كل شيء حولك يدعوك إلى أن تعرف حقيقة الدنيا من حولك مما نفهمه من قول الحق تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، أن يومك لك، ويوم غدٍ لغيرك، وأن من الضعف الذي يعتري الإنسان عدمَ مقدرته على حِفْظ مكانته التي كان عليها إلا أن يشاء الله به إمضاء قدره المحتوم، فيكون بقاؤه على مكانته التي يحب ليس (لسواد عينيه)، وإنما لتحقيق مصالح لغيره يُمضيها الله على يديه، ومجازًا يقال: يوم لك ويوم عليك؛ لأن المعنى المراد باليوم الفترة الزمنية التي خوَّلك الله فيها، ثم تأتي الفترة الزمنيَّة لغيرك، وحينها فقط تقرأ بين سطور الأحداث ما الذي أحسنتَه في فترتك التي خوَّلك الله إياها، وما التي فيها أسأت، فتكون من الله لك فترة استراحة إجباريَّة تُراجِع فيها نفسَك، وتُقبِل على الله بتوبة نصوح، قد يُعوِّضك بها مكانة أرقى وأريح لدينك ولقلبك من سابقتها، إنها سُنَّة الله في التغيير، وسنَّة الله في التربية، وسنَّة الله في تحقيق مصالح العباد، وإننا ضُعفاء لا نَملِك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا، والتداول ذاته علاج ناجح لداء ثبات الأحوال دون تَحلحُلها من الروتين المملِّ والضجر، وانعدام رُوح الإبداع والتجديد، إن الحياة أشبه ما تكون بالنهر الجاري، أو البحر المتجدِّد بأمواجه لا يَقبل في جوفه الموات، ولولا تقلُّب أحوال الحياة بالناس ما تعلَّم الجاهل، ولا تواضَع المتكبِّر، فالأصل في سنة الله الجارية حصول التبديل في المخلوقات، والتغيير في الأحداث والوقائع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} {الرحمن:29}، جاء في تفسير الطبري عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. يجيب داعياً ويعطي سائلاً ويفك عانياً، ويتوب على قوم ويغفر... وعن قتادة: يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. قال: يخلق مخلقاً، ويميت ميتاً، ويحدث أمراً. وعن منيب بن عبدالله الأزدي، عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا: يا رسول الله، وما ذلك الشأن؟ قال: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً ويضع آخرين... ما أجمل نعم رب العالمين على عباده وقدرته في إعطاء العبد نعماً كثيرة لا تعد ولا تحصىلذا ينبغي التحلي بالأخلاق السامية. روى التاريخ الإسلامي عن رجلين تنازَعا على كنز وجداه في أرض أحدهما، يقول الآخَر للقاضي: سيدي القاضي هذا الكنز له؛ لأنه وجده في أرضه وليس لي، ويقول الآخَر: بل هو له سيدي القاضي؛ أنا اشتريتُ الأرض ولم أشترِ الكنز، فهو له، هل مِثل هذه النفوس - وقد علَت عن حُطام الدنيا وسفاسفها - تَطمع في مَغنَم يأتيها أو تأسَف على لُعاعة سُلِبت منها؟ إنها النفوس الكبيرة الطامحة لما عند الله، يأتيه الناس بأوزارهم وأحقادهم، ويأتيه هو بقلبه السليم، وإن سنَّة الله الجارية أنّ من كان حاله مُتَّصِلاً بأحوال الآخَرين يُحسِن الله له حاله، ويرفع من مقامه إن استغلَّ حاله في تحقيق منافع الآخرين ورفْع الضر عنهم، وأنَّ مَن تضرَّر الناس بمقامه وكان سببًا في ذلك، هيَّأ الأسباب القالعة له من مقامه وحاله التي عليها، فينبغي مراعاة الله في السر والعلن فما يؤرقنا اليوم هو حال الناس والبشر عندما يكون في مكانة يتغير ويريد أن يثبت لنفسه وللآخرين مكانته وأنه في مكانة لا يصل إليها غيره متناسياً كلمة هي بمثابة الصحوة لكل عمل يعمله، نعم عبارة يجب أن نفهمها ونعي معناها جيداً من نسي عندما تقلد منصباً أو أصبح في موقع مهم أنه سيتركه في يوم ما, فأخذ يصرخ ويتأمّر ويستهزئ بالجميع مستغلاً المكان الذي وصل إليه، وكأنه الفاهم الوحيد وغيره لا يفهمون شيئاً.. بعض هؤلاء تجده يستكثر السلام على الناس، وربما لا يردّ لو بادر أحد بالسلام عليه في وضع مضحك يشرح الحالة النفسية التي وصل إليها.. والبعض الآخر تجده أصبح ممثلاً بارعاً حتى أمام زملائه ليوهمهم بأنه أصبح شخصاً من الصعب الاستغناء عنه.
عجباً لأمور أصبحت شائكة ومتشعبة، وهنا في مقالي هذا أنادي وبكل قوة من نجد به الخير والإخلاص ندعو لبقائه، ومن فيه شر فليرحل فمتى كان الموظف أو المسؤول لا يعدل في معاملته مع الناس، فليعلم أنه وضع في غير موضعه، وأن السلامة له أن يراعي الله في كل شيء، وأن يحاول المسؤول أن يكون مع موظفيه بأفضل صورة، وأن عليه التركيز على أمرين أولهما: شاركهم في الرؤية وصناعة المستقبل، وأَوضحها لهم، واجعلهم يشاركونك همّ النجاح، وهمّ تحقيق الأرباح، فالرؤية والهمّ يجب أن يكونا مشتركين بين المسؤول وفريق العمل.
ثانيهما: كسب الموظفين من خلال التعامل معهم بإنسانية تسأل عن حالهم، تشاركهم أفراحهم، وتواسيهم في أحزانهم، أعجبني من يقول: (حاول أن تصطاد موظفيك وهم يعملون أشياء رائعة) البعض يعملون على اصطياد موظفيهم في أخطائهم وهذا خطأ كبير. إن أعظم رجلٍ طبّق الاستحواذ على القلوب ونجح فيه هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، لدرجة أن الصحابة رضي الله عنهم وصلوا لمرحلة تفضيل النبي على زوجاتهم وأولادهم.
ترى لماذا؟ لأن رسولنا كان المثل الأعلى والقدوة الحسنة ويجب الاقتداء به كيف لا وهو من حمل أعباء أمة ودعوتهم إلى الحق لذا على من ولِي أمراً أن يكون قدر المسؤولية، وأن يعمل بإخلاص وصفاء قلب ونقاء سريرة، ولله در الشاعر حينما قال:
من كان يرغب في النجاة فما له
غير اتباع المصطفى فيما أتى