د. فوزية البكر
يكاد كل منا أن يلمس نار القلق والتساؤل تصل إلى وجهه وتحدق فيه عبر نبضات توتير وعبر رسائل الواتس أب وحتى تجمعات سناب للشهيرات اللاتي شغلتهن قبلا أمجاد الطبخ أو المكياج ليقفن الآن في مواجهة (اللامتوقع) الإرهابي ويبدأن في طرح الأسئلة والنصائح للتأكيد على ملاحظة الجميع والاستجابة لأي اشتباه؟!
كلنا نتساءل وندعو الله أن يحمي حياضنا ويحرس بلاد الحرمين وكل بقعة في أرجاء العالم من ويلات الإرهاب الذي لا يعرف موقعاً ولا جنسية ولا يرأف بكبير ولا صغير ولا قريب ولا بعيد.
السؤال الآن: ماذا نسأل ومن نسأل وكيف نسأل وهل فعلاً سنصل إلى إجابات مقنعة تساعدنا ليس فقط على فهم الحالة بل على التسلح في مواجهتها؟
التطرف هو الطريق السلس للإرهاب، وهو يحدث عادة في الحالات القطعية، وفي المجتمعات الحدية القامعة التي لا تقبل التنوع أو الاختلاف بحيث تصبح القضايا الجزئية التي وسع الله فيها لعباده قضايا قطعية لا نقاش فيها، كأن تلبس المرأة غطاءها على الرأس أو الكتف أو أن نجلس على كراسي أو على الأرض كما في عهد النبوة أو أو... وتدريجياً يصبح المناخ العام مليئاً بالجزئيات والتشويش وتغيب القضايا الرئيسة: قضايا العلم والتنمية والأسرة التي هي صلب المجتمع الإنساني. وبدل أن تخدمنا الرسالات السماوية كما أراد الله لها أن تفعل يجيرها البعض لملئ الأرض بالعدوان والتطرف، فكيف نواجه هذا السيل العارم من الخوف.. الترقب.. القلق وكلها مشاعر إنسانية طبيعية يحق لنا أن نشعر بها أولاً ثم نعبر عنها ثانياً لتحدديها، وكل ذلك حتى نستطيع أن نتعامل معها بصورة شاملة وليس كرد فعل لغمة طارئة.
الأزمة ثقافية في جذورها، وهذا ما يجب علينا الاعتراف به. الثقافي هو ما يحدد مجموع القيم والاتجاهات والمفاهيم التي تشكل المناخ العام وتضع أولويات المؤسسات وتحدد توجهاتها القيمية العليا، فتأتي المدرسة مثلاً وبدل أن تعلم الأطفال قبول أنفسهم كما خلقهم الله بيضاً أو سوداً أو قصاراً أو كثيفي الشعر، نجد نموذجاً متفرداً يؤكد شكل الذكر الغائص في صمته ووقاره وقطعيته مقابل الأنثى المجنونة التي تحتاج إلى عقال، والجميع في كل الأحوال لا يملكون من أمرهم شيئاً، فهم محتاجون إلى فتوى في صغائر حياتهم حيث هم لا يعقلون، فكل الزوايا حادة والمنظور واحد فقط مما يولد الارتياب والبحث عن موقع من خلال التشبه بالنموذج الأوحد (غير العقلاني) والذي يطالب الجميع بأن يتطهروا في كل دقيقة وأن ينسوا حياتهم ومشاعرهم لأجل اليوم الآخر فقط دون اكتراث بالحياة الدنيا. وهنا.. هنا فقط يتوقف الفرد عن أن يكون أنساناً فلا تصبح القيم الإنسانية المتعارف عليها من محبة وتسامح وعطاء مثل بر الولد بأمه أو عنايته بالمكلوم والفقير ضمن أطره القيمية اليومية فيستبيح المحرمات مثل ما نرى اليوم أمام أعيننا حيث قُتلت الأم التي ولدت وطُعن الأب وذُبح الأخ وابن العم حتى وصلنا إلى محاولة التفجير في محيط مسجد حبيب هذه الأمة.
الخلاص: هو الأنسنة. أن نعود بشراً كما خلقنا الله وأراد لنا أن نعمر هذه الأرض بكل صخبنا ونواقصنا ومشكلاتنا وقلقنا، فكل ذلك مقبول عند الذائقة الإنسانية، أما النماذج الطوبائية المتفردة الخيالية التي ينادي بها المتطرفون فلا مكان لها على الأرض بيننا. يجب أن نركض نحن الأمهات والآباء والمواطنين لنفرض على كل المؤسسات التي لنا علاقة بها سواء كانت أسرنا الخاصة أو فصولنا إذا كنا معلمين أو شارعنا إذا كنا ربات بيوت أو مكتبنا الحكومي إذا كنا موظفين بأن نكون بشراً عاديين نحب في اعتدال ونعطي في اعتدال ونتساءل في قلق ونعمل بجدية للحصول على المختلف إن كان تفوقاً أو بيتاً أو زوجة، فكل ذلك من المختلف الإنساني المتنوع المقبول ولا صحة للنموذج الأوحد والفعل الأوحد والقول الأوحد. خلقنا الله شعوباً وقبائل لنتعارف، وأن أكرمنا هو من يعمر أرضه التي أخلفنا عليها بالتقوى والصلاح. يجب أن نحارب مدعي المثالية والمتسلقين عبر مظهرية التدين (الخارجية ) والتي مكنت البعض - للأسف - من السيطرة على مؤسساتنا وعلى متخذي قراراتها باعتبارهم الأكثر علماً وصلاحاً. كلنا صالحون طالما أننا مخلصون لأنفسنا أولاً بأن نحب أنفسنا ثم وطننا حين نخلص في كل ما نفعله وفي أي موقع نكون. الحرب الفكرية طويلة وعلينا أن نتسلح لها بكل ما نملك.