د. حسن بن فهد الهويمل
الدُّولُ المستبدةُ وراءَ منظماتِها، وهيآتِها، ومجالِسِها، تدفع إلى غرف العمليات بجهابذة الفكر، وأساطين السياسة، وقادة الحرب، لإدارة المعارك، وترويض الجماح.
وتجود بالمساعدات: العسكرية، و[اللُّوجِسْتِيَّة] لمن تشاء. بحيث لا يدري المحتربون مَنْ وراء هذا القتل الهمجي.
وصدق من لا ينطق عن الهوى: {لا يَدْرِي القاتل لماذا قَتَل ولا المقتول لماذا قُتِلَ}.
إننا لكي نتجاوز المنعطفات الخطيرة، تتحتم علينا قراءةُ الواقع بعيون مُبصرة، وبصائر واعية.
ولأن لكل عصر ظواهره، فإن أهم ظواهر عصرنا [الصحوات الإسلامية] ما ننكر منها، وما نعرف.
وهي ليست سيئة على الإطلاق، كما يقطع الغربيون، والمستغربون. وليست معصومة على الإطلاق، كما يدعي الحركيون المغرر بهم.
الصحواتُ ظاهرةٌ حميدة، متى أَغْمَدت السِّنان، وأطلقت اللسان. تمشياً مع التوجيه الرباني: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والمخالف في الفكر، أو في الدين، أو في السياسة، أو فيها جميعاً، ليس شرطاً أن يكون بما يرى نائباً عن الأمة بكل أطيافها، ومؤسساتها.
من حقه أن يبدي رؤيته، وأن يجادل من أجلها، متى أُمِنَت الفتنة. وليس من حقه احتكار الحقيقة. وإلزام غيره برؤيته.
فالناس لا يساقون كالقطيع، ولا يُكْرهون على التسليم لمراد الأفراد، أو الطوائف.
الله جل، وعلا نَبَّه رسوله بتساؤل تحذيري: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وهو قد نفى عن رسوله الأمر، وتدبير الكون: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
فلا يجوز لأحدٍ كائناً من كان أن يتحول من الدعوة المشروعة إلى التسلط المحظور، ولا أن يقطع بصواب رأيه، وخطأ من سواه.
ولاسيما أن الزمنَ زمنُ مؤسساتٍ، وهيئاتٍ، ومجتمعاتٍ مدنية. لا تتحقق سيادة الدولة إلا بتفعيلها.
العصر الذهبي لأمتنا تمخض عن المذاهب الأربعة في الفروع، وعما لا حصرله في علم الكلام.
وكل عالم يأخذ مُتَّكأه في مسجد بلدهِ، ويلتف مِنْ حوله طلبتُهُ، ومريدُوه. وإذا مضى لشأنه، ضجَّت أرجاء المسجد بالحِجاج القائم على الأدلة، والبراهين.
والناصح لنفسه، ولأمته، يجتهد ما وسعه الاجتهاد لِتحري الصواب، والتماس المحجة.
وهو حين يأخذ بمذهب، أو حكم، ويصير إليه معتقداً أنه هو الحق. لا يخوله ذلك فرض خياراته، وقناعاته الاحتمالية على الآخرين.
له حق التبليغ، والدعوة، والجدل بالتي هي أحسن، وعليه استبانة رأي الآخر، والتفسح له.
فالدعوة بالرفق، غير الحمل بالإكراه. والجدلُ باللسان، غير التناوش بالسنان. والاختلاف حتمٌ، لا مناص منه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.
ومع التفاني في الصراع المجاني، لا تخلو مشاهدنا من مجتهد مُحِقِّ، يكون حديثه جَذَّاباً مقنعاً، ورأيه صائباً مُحقاً، ودعوته مشروعة صادقة، لا تتورع الدهماءُ من تلفيق الاتهامات، وترويج الإشاعات، وتداول قالة السوء عنه.
وعفا الله عن [الشابي ت 1932م] الذي جَسَّدَ شطراً من واقعنا بقوله:
كُلَّمَا قَام فِي البِلادِ خَطِيْبٌ
مُوْقِظٌ شَعْبَهُ يُرِيدُ صَلاحَهْ
أَلْبَسُوا رُوْحَهُ قَمِيصَ اضْطِهادٍ
فَاتِكٍ شَائِكٍ يَرُدُّ جِمَاحَهْ
أخْمَدُوا صَوْتَهُ الإلهِيَّ بالعَسْفِ
أماتوا صُداحَهُ ونواحَهْ
وَتَوَخَّوا طَرَائِقَ العَسْفِ والإر
هاق تَوَّاً وما تَوخَّوا سَمَاحَهْ
هَكذا المُخْلِصُون فِي كُلِّ صَوْبٍ
رَشَقّاتُ الرَّدَى إِليْهِم مُتاحَهْ
أمتنا في زمن الاهتياج الأعزل، والتغرير المتعمد متشرذمة. كل طائفة، بل كل فرد يذهب بما يرى، مُسْتَخِفاً بتماسك أُمته، مصدعاً لوحدة فكرها، وتلاحم جبهتها الداخلية.
إن أمتنا بعد التجريبات الفاشلة بحاجة إلى مراجعة للنفس، وتقويم للممارسات، والنظر فيما إذا كانت على المحجة البيضاء، أو هي لمَّا تزل على بنيات الطريق المعوجة المظلمة.
وإذا استعصى علينا تطويق الخلاف، فلا أقل من إرجاء الصدام، والدخول في السِّلم كافة.
اللين وحْدَه الذي يستل السخائم، والرفق وحْدَه الذي يجمع الشمل، ويدرأ المفاسد. وما دخل الرفق في شي إلا زانه، وما دخل العنف، والصلف في شيء إلا شانه:-
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، قيل هذا بحق الرسول المؤيد بالقرآن، والملائكة، وجوامع الكلم. فكيف بمن دونه.
أمتنا على ما هي عليه، لا ننكر تأثير الجهل، والتخلف، والقابلية للتبعية، وفداحة اللعب السياسية، وتكالب الأعداء، وممارسة الإسقاط، والمداهنة فيما يجري من انقلابات عسكرية، وتدخلات صهيونية، وتعديات مجوسية محمية، ومدعومة، وتخذيل، وتخاذل، وتفرق في الرأي، وتشتت في الانتماء، وأصوات [براقشية] تقدم الوثائق للأعداء، وتوقظ الفتن بين المواطنين الأصفياء.
وإذ تُثْبِتُ التجاربُ خطأ الفعل، وخطل القول، فإن الوقت قابل لإعادة لنَظر في كل شيء. أملاً في إنهاء زمن التيه، الذي طال أمده، ونما في ظله اليأس، والقنوط، والإحباط.
لقد مللنا المغامرات، والرهانات الخاسرة، ولم يبق إلا الحلم، والأناة، والشفافية، والمكاشفة، والجنوح إلى السلام مع الأقارب قبل الأباعد، وتغليب التعايش، والتفاعل، والتعاذر على المقاطعة، والتدابر، والتنابز:-
{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.