د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تطرقت في المقال السابق لأسباب العنف عموماً، والعنف الوحشي تحديداً كما أجملها أحد أهم باحثي العنف المختصين البروفيسور «جيمس قليليقن»، ولخصها في الإحساس بالعار والخجل بشكل قوي ولفترات طويلة تسبب نزيفاً للذات يفضي بها إلى موتٍ أو فراغٍ كاملٍ يفقد معه صاحبها جميع أحاسيسه الإنسانية، ويعاني صاحبها من ألم لا قدرة له على تحمله، فيدفع به في النهاية للخلاص بالتضحية بجسده لاسترداد ذاته ولو بالقتل بشكل استعراضي يعيد معه فرض ذاته بالتضحية بجسده. وقد ينطبق ذلك على حالات العنف التي انتشرت مؤخراً في مجتمعنا ومنها بعض حالات تفجير الشباب أنفسهم في المساجد، أو دوريات الشرطة، أو حتى قتل أقاربهم. فهم ذوات ميتة لا إحساس بها حتى لأقرب المقربين لهم. فالقواسم المشتركة بين هذه الأعمال تتجلى في انعدام الشعور الإنساني، عدم الإحساس بطبيعة أو عواقب العنف الممارس، والغياب التام للعاطفة تجاه الضحايا.
واختلف المهتمون بأعمال العنف، في حالتنا، حول دور المناهج الدراسية في تعزيز التطرف الديني، حيث اعتقد بعضهم بأنه يهيئ الشباب للارتماء في أحضان التنظيمات المتطرفة كالقاعدة، أو داعش، أو النصرة، ورد عليهم البعض الآخر بأن الإرهابيين يأتون من ثقافات مناهجها شبه علمانية كتونس، والجزائر، أو علمانية بالكامل مثل بلجيكا، وفرنسا، ولذا لا علاقة للتعليم بالتطرف. واتهم آخرون من وصفوهم بالمحرضين باستدراج الشباب للانخراط في النشاطات الجهادية دونما أدلة مادية واضحة. ولفهم أي علاقة سببية كالتي نحن بصددها لا بد من فهم طبيعتها أولاً. ولا بد من التسليم، بادئ ذي بدء، أن شخصية النشء في مجتمعاتنا الحديثة، وربما ينطبق ذلك على كافة الدول، تتشكل بداية في المدرسة التي تعلمه القراءة، والكتابة، وأساليب التفكير والنظر للأشياء من حوله. ثم تواصل الجامعات هذا الدور بشكل أقل بحكم طبيعتها التخصصية، ويتولى الإعلام بكافة أشكاله تكملة صقل هذه الشخصية.
فالتعليم في مجتمعاتنا الإسلامية عموماً سواء في شرق أو غرب عالمنا الإسلامي، وبصرف النظر عن المذهب أو الطائفة، يؤكد على تكوين الذات الديني، بحيث يصعب أحياناً التفريق بين الهوية الدينية والهوية الذاتية بسبب الانصهار التام بينهما. ولا يوجد في التعليم الديني ما يدفع أو يحض مباشرة على التطرف أو قتل الآخرين، بل على العكس، ربما يحض على الإحسان لهم. لكنه بالمقابل، وفي بعض الأحيان، يخلق فرداً لا يفرق بين هويته الذاتية وهويته الدينية، بحيث إنه يأخذ الإهانة لمعتقده على أنه إهانة لذاته، ولذا تظهر أحياناً على بعض المتدينين حدة الطباع وسهولة القابلية للاستفزاز.
ويصل الشاب لمرحلة التطرف عندما يعيش حالة عدم انسجام بين ما يحمله في داخله وما يدور حوله، وعندما يتحول ذلك ليأس من التصالح بين العالمين الذاتي والخارجي فيقرر الشاب اختيار أحدهما، وهنا يكون الانكفاء والانغلاق التام على الذات عما خارجها. ويرى علماء النفس، ومنهم قيليقن، ومارثا ماهوني، وقبلهم «فرانز فانون» علاقة مباشرة بين التسلط والاستبداد (السياسي والأسري) وممارسة العنف، فنسبة الجرائم في أمريكا مثلاً حيث يحكم الناس بقوة البوليس فقط تفوق سبع مرات نظيرتها في جارتها كندا مع أن أنماط المعيشة فيهما تكاد تكون متطابقة. وربما يمكن أن نعزو التطرف الإسلامي في تونس، حيث يأتي منها غالبية فئات المجاهدين اليوم، إلى تطرف النظام السابق في قمع الممارسات الدينية في المجتمع بشكل قاس جداً مما ولد تطرف مقابل.
وما يجري في مجتمعاتنا اليوم قد يكون بسبب الإحساس الدائم والمستمر في العقود الأخيرة بالعار والمهانة المستمرين التي يراهما الشباب موجهة لذواتهم (ذواتهم الملتبسة)، ورؤيتهم لما يعتقدون أنه إهانة مستمرة لدينهم ولإخوانهم المسلمين في كل مكان مع العجز التام لفعل أي شيء! فالحرب ضد الإرهاب تحولت إلى صلف غربي وتجنٍ على الإسلام ذاته، وتضييق على المسلمين في كل مكان وتعرضهم لكافة أصناف المهانة والتمييز، داخل الغرب وخارجه. وهذا ما يفسر أيضاً تحول كثير من شباب ضواحي فرنسا وبلجيكا للإرهاب. ونحن نرى اليوم الشباب الفلسطيني الذي يحس بمهانة مشابهة تحت الاحتلال يضحي بنفسه بطعن المستوطنين وهو يعرف أنه حتماً سيموت فيما بعد.
فالتعليم والوعظ الديني يعمق توحد ذات الشاب المسلم مع ذاته الدينية، ويعمق الإحساس بالمهانة والعار والخجل لديه مما يجري حوله لما يعتقد أنها ذوات متطابقة مع ذاته تدفعه للتطرف والنزعة للجهاد، وعدم القدرة على ذلك تجعله ينتقم من مجتمعه القريب. وهنا علينا أن نتأكد من أن الجماعات الإرهابية لديها فعلاً القدرة على تجنيد الشباب المتطرف وليس أن هذا الشباب هو من يبحث في مرحلة ما عن هذه الجماعات.