د. جاسر الحربش
مدخل لتوضيح ما وراء العنوان: لم يعد بإمكاننا الصمت. مجتمعنا الذي كان قبل عقود قليلة فطري التمييز بين ما هو دين وما هو فحش باسم الدين قبل أن تكون هناك صحوة ببرامج سياسية، تم اختطافه إلى مدارك أسفل السافلين. ها هي قد وصلت الأمور إلى قتل الوالدين والأقارب بناء على فتاوى أكثر عددا وأقبح أفعالا من قرون الشياطين. التعايش مع هذه الآفات الشيطانية تحول إلى عبء شرعي وأخلاقي يتحمله الجميع، الفاعل والمحرِّض والصامت القادر. قد نستحق لعنة الله إن لم نبادر سريعا بالقضاء على رؤوس الشياطين، تمهيدا للعودة إلى تديننا الفطري الأول. بداية الطريق نحو ذلك لن تكون ممكنة إلا بتحديد الأوكار والأفكار المسؤولة عن هذا الطاعون ثم اجتثاثها إلى الأبد، بعد أن نعترف بأن كل هذه الجرائم تقوم على فقه يقول بتكفير المجتمع وضرورة رده إلى دولة الخلافة الإسلامية الصحيحة بالعنف والقتل والتدمير، انتهى المدخل.
من التناقض الكلام عن دولة دينية بمشروع دولة حديثة، لأن مفهوم التجديد الموجود في أصول الدين الأولى قد تم حرفه نحو اتخاذ أنماط الماضي كقدوة وأمثلة في كل شؤون الحياة. الانحراف نحو هذا المفهوم مهد له الاجتهاد العشوائي للفقهاء والدعاة، وعلينا أن نتذكر أنه لهذا السبب لوحق الفلاسفة والمجددون والمفكرون عبر القرون، فبقيت أحوال العالم الإسلامي على ما نعاني منه من تمزق وفساد. الاجتهادات الفقهية أنبتت لنا مذاهب متقاتلة تنشر الدمار المتبادل وتحاول جعل الوصول إلى الدولة المدنية الحديثة من سابع المستحيلات.
مشروع التحديث في أي دولة إسلامية عربية أو غير عربية أصبح مكبلا بمعارضة فقهية شرسة. أوضح الأدلة على ذلك نجده في تحول ما نلوكه ثم نلوكه للعثور على أسباب قتل الوالدين والأقارب إلى نقاش تكاذب، أو على الأقل نقاش تنقصه المصداقية. علينا أن نتذكر ما قد سبق تكرارا من جدل عقيم عن الإرهاب المحلي ضد المؤسسات الحكومية والمجمعات السكنية واغتيال الأجانب وتكفير شخصيات اجتماعية بالاسم، ونتذكر أن ذلك النقاش الطويل لم يقدم عملا جامعا مانعا، سوى زيادة التحوط الأمني المكلف ضد أفعاله، دون الوصول إلى إخماده في منابته الفكرية وتمويلاته. التشدد الإرهابي، فكرا وممارسة، مستمر في التصاعد وها هو قد وصل إلى تفجير المصلين وقتل الوالدين والأقارب ونشر الخوف داخل الأسرة الواحدة. يبقى الاستدلال بما يثبت أن ما قلناه حتى الآن حول الأسباب المولدة والداعمة للإرهاب كان نقاشا تكاذبيا بلا مصداقية. الدليل واضح للعقل المحايد، ويتمثل في كون البنية الاجتماعية داخل الوطن الواحد عند تلمسها لأسباب الإرهاب منقسمة إلى فئويات مصلحية، تدافع كل فئة منها بشراسة عن حماها الخاص ومصدر تكسبها واسترزاقها، ليبقى الوطن نفسه كمستقبل خارج الاهتمام الجمعي المتعطش إلى الحل الصحيح.
للإحاطة الأشمل بالظاهرة من المهم استيعاب وتفكيك الإرهاب المنتشر بأنواعه في العالم الإسلامي، ومنه العالم العربي وإيران وتركيا وباكستان وبقية الدول الإسلامية. واضح لمن ينشد الوضوح أن الأسس الفكرية لكل هذه الأنواع هي المشروعات المذهبية المتسلحة بفقهها الخاص، رغم أن الأمر كله مجرد منصات سياسية تبريرية.
لنبدأ بإيران كدولة إسلامية مذهبية بوضوح. المسمى إسلامي لكن الحكومة مذهبية تستخدم فقها مفصلا لأغراض متطرفة في مجتمعها الداخلي ثم في جوارها الخارجي. هذه الدولة تدار بحكومة عنصرية لن تقدم لشعبها سوى تبديد الثروات وحرق الأجيال. إنها مسألة وقت ويسقط هذا المشروع لكونه خارج الزمن.
أما توسل التيارات الدينية العربية بادعاءات نجاح ماليزيا وتركيا في الوصول إلى الدولة الدينية الحديثة فهو من التضليل المتعمد. إن ماليزيا دولة أكثر سكانها مسلمون، لكن تدار بحكومة ائتلافية غير إسلامية في التطبيق، علاوة على أنها ليست مذهبية لا كدولة ولا كحكومة، لذلك أصبحت دولة مدنية حديثة.
تركيا دولة إسلامية، لكن حكومتها علمانية منهجية وصلت إلى الحكم بالانتخابات الديمقراطية، وهذه بدعة كبيرة في الفقه الإسلامي المتوارث. للأسف، بعد أن حققت الحكومة التركية نجاحات اقتصادية واضحة بالشروط المدنية الحديثة داخلها الإعجاب والطمع، فحاولت زيادة الجرعة الفقهية الأحادية كواقع مفروض على مجتمع غير متجانس. النتيجة كانت تفكك القيادات الكبرى لحزب العدالة والتنمية ودخول البلاد في نفق الإرهاب واحتمال تفكك الدولة نفسها. آخر التراجعات عن هذا الغلط نراه في الاعتذار لروسيا وإسرائيل لتحسين العلاقات معهما، وهو اعتذار عن فعل بما هو أقبح منه، ولم يكن ذلك من أدبيات الحكومة التركية. ما لم يتدارك العقلاء الأتراك الخطر ويستأنفون من جديد طريق التعايش والتحديث بشروط الدولة المدنية الحديثة سوف يفشل المشروع.
التكملة القادمة سوف تكون عن مجتمعنا المحلي ونقاشنا العبثي حول تصاعد الإرهاب رغم فعالية اليقظة الأمنية الاستباقية على مدار الساعة.