هاني سالم مسهور
في لحظة ذهول من يوم الجمعة 24 يونيو 2016م وقف العالم أمام نتيجة التصويت على خروج بريطانيا من النادي الأوروبي مذهولاً، فما حدث يمكن أن يوصف بالزلزال الكبير الذي وقع برغم معرفة الكثيرين بحجمه وتوقيت وقوعه، وتماماً يمكننا أن نعتبر خروج بريطانيا منعطفاً دولياً يتفوق على هجمات 11 سبتمبر 2001م، فالارتدادات للزلزال الأوروبي ستصل إلى كل أنحاء العالم نظراً لما تمثله بريطانيا من ثقل تاريخي ومالي وعسكري وسياسي، وهذا ما يجب أن يقرأ بأبعاده وكل زواياه.
قال الرئيس الفرنسي شارل ديجول في نوفمبر من العام 1967م أمام نحو ألف شخص من الدبلوماسيين وكبار رجال الدولة الفرنسية: إن بريطانيا تملك «كراهية متجذرة» للكيانات الأوروبية، وحذّر من أن فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدي إلى تحطيمه. وقصة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة كانت بنفس قدر درامية سيناريوهات خروجها المطروح من الاتحاد الأوروبي.
ففي عام 1961 تقدمت بريطانيا بطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة، وبعد ذلك بعامين رفض ديجول الموافقة على دخول بريطانيا. حاولت بريطانيا مرة أخرى وأعلن ديجول رفضه لانضمام بريطانيا في عام 1967م بالرغم من موافقة الدول الأخرى المنضمة للسوق. وتبدو مشكلة بريطانيا أنها تريد أن تكون جزءًا من أوروبا، دون أن تكون عضوًا حقيقيًا فيها. فعندما اختار أعضاء الاتحاد الأوروبي الاشتراك في نظام موحد لتأشيرات الدخول (الشنجن) رفض البريطانيون الانضمام وعندما تبنوا اليورو كعملةٍ موحدة لهم اختار البريطانيون الاحتفاظ بالجنيه الاسترليني.
ولم تستطع بريطانيا الانضمام للاتحاد إلا بعد أن ترك ديجول الحكم عام 1969م لتصبح عام 1973م دولة كاملة العضوية في السوق الأوروبية المشتركة، وجرى الاستفتاء الأول على عضوية بريطانيا في عام 1975م.
كانت بريطانيا تطمع في الحصول على المزايا الاقتصادية التي توفرها السوق الأوروبية المشتركة لأعضائها، خصوصًا رفع الإجراءات الجمركية أمام التجارة بين أعضاء السوق وكانت بريطانيا تدرك أيضًا خطورة الابتعاد عن أي مشروع وحدة أوروبية لأن هذا لن يؤدي سوى إلى المزيد من العزلة السياسية بعد أن خسرت مستعمراتها حول العالم.
رئيسة وزراء بريطانيا خلال الثمانينيات مارجريت ثاتشر لخصت علاقة بريطانيا بأوروبا من خلال قول «لا» ثلاث مرات في جلسة لمجلس العموم عام 1990م، كانت ثاتشر معارضة شرسة لمنح بروكسل، حيث مقر المفوضية الأوروبية، أي سلطات مركزية أو تشكيل ما يعرف باسم «الولايات المتحدة الأوروبية».
تاريخيًا لم يكن حزب المحافظين من المؤمنين بفكرة الاندماج الكامل في أوروبا أو كياناتها السياسية مثل الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن زعيم المحافظين التاريخي وينستون تشرشل كان من الذين يؤمنون بأن حل المشاكل الأوروبية لن يكون سوى بإقامة وحدة كاملة.
في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، بدأ التململ يزداد في القاعدة الشعبية للمحافظين تجاه المهاجرين من دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد عام 2004 و2007. لمواجهة هذا التململ والضغط الشعبي، قام رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون بالتعهد بإجراء استفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حال تم انتخاب المحافظين للحكم عام 2015م، وتم الاستفتاء وبريطانيا باتت أمام المشهد الأخير عجوزاً مُطلقة تحمل إرثاً عظيماً وتاريخاً عميقاً غير أن كل هذا لن يعيد لتلك العجوز صِباها ونظارتها وجمالها.
سقوط أحد أقدام الطاولة التي تحمل الاتحاد الأوروبي المتمثل في بريطانيا يشكل هاجساً أخطر مع قرع دونالد ترامب أبواب البيت الأبيض، واستنشاق الأحزاب اليمينية للهواء في طول أوروبا وعرضها مما ينذر بصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أكثر من دولة أوروبية لديها ذات الطموح الانفصالي، وتراقب عن كثب استفتاء الخروج البريطاني من أجل المطالبة به في دولها، وتكمن الخطورة في أن شعبية هذه الأحزاب في ازدياد، وهو ما يعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد قد يشكل بداية انفراط عقده، وعودة القارة الأوروبية إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية.
وسيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التسريع ببدء أزمة اقتصادية عالمية جديدة بسبب الأوزان النسبية الكبيرة للطرفين في الاقتصاد العالمي. أما سياسيًا فسيفقد الطرفان الكثير من مكانتهما في العالم، وهو ما سينعكس سلبًا على قدرتهما في التدخل لحل النزاعات الإقليمية، أو تحقيق توازن في القوى الدولية المؤثرة سياسيًا، أمام روسيا والصين والولايات المتحدة.
لم تواجه أوروبا تحديًا يهدد كيانها السياسي الأهم في تاريخها، مثل تحدي استفتاء مواطني المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي هذه اللحظات يتذكر الأوروبيون كلمات ديجول ويقولون: ربما كان الجنرال الفرنسي العجوز على حق!