د. أحمد بن صالح اليماني
لم أتعود أن أعلق على الأحداث والجرائم التي تحصل من وقت لآخر في مجتمعنا كغيره من المجتمعات، وذلك لأن هناك جهات رسمية معنية بالتعامل المباشر مع مثل هذه الحالات والتحقيق في خلفياتها ودوافعها ومن ثم استخلاص الدروس والعبر منها وتنوير الرأي العام بشأنها، كما أن هناك مختصين هم الأجدر بالتعليق على الجوانب الأخرى المرتبطة بالأبعاد الاجتماعية والنفسية لها. لكن الجريمة التي حصلت الأسبوع الماضي كانت مختلفة بالنسبة لي لأنها ـ أولاً ـ جديدة على المجتمع بشكلها وطبيعتها وحجمها ومستوى بشاعتها مما يفسر الذهول الذي أحدثته لدرجة أنها أصبحت حديث المجالس، مما فرض على كل مربٍ أو صاحب رأي أو تأثير في أي موقع كان أن يشعر بالمسؤولية عن الإسهام في تشخيص الواقع الذي أفرز مثل هذه الجريمة، وتلمس حلول تضمن عدم تكرار مثلها في مجتمع محافظ ومتشبع بقيم الإسلام العالية مثل مجتمعنا.
والأمر الثاني الذي دفعني إلى التعليق هو أننا في جامعة الأمير سلطان معنيون بالفجيعة بشكل مباشر كون إحدى ضحايا الغدر فيها هو أحد خيرة طلابنا أدبًا وعلمًا، وهو الشاب سلمان العريني - شفاه الله - مما جعلنا نتأكَّد أن هناك وضعًا غير طبيعي يستحق التأمل في الدوافع والنتائج. فالمقارنة بين هذا الشاب المتميز وبين من قاموا بهذه الجريمة البشعة يثير الاستغراب من أن يكون المنزل الذي خرج مثله يمكن أن يضم مثل هؤلاء القتلة، ويثير التساؤل عن المؤثرات الحقيقية التي تحول شبابنا الذي يتمتع بكل الظروف المواتية لنشأة صالحة مثل منزل والدي سلمان العريني إلى نمط آخر يعلن الحرب على أقرب الناس إليه مما يبعث على الحيرة ويدعو إلى التأمل.
فما الذي جعل المنزل الذي خرج مثل هذا الشاب الذي يعد نموذجًا مشرفًا لشباب الوطن الواعد؛ تميزًا في الدراسة بكلية علوم الحاسب واستقامة في الدين والخلق العالي، وإصرارًا على صنع المستقبل؛ يضم إخوته الذين تربوا وأكلوا معه في نفس المنزل وعاشوا نفس الظروف لكنهم سلكوا طريق الانحراف.. لا شك أن هناك أسبابًا وخلفيات تتجاوز المحيط الأسري يجب علينا جميعًا أن نكون واعين بها، وأن نحددها ونضع لها العلاج الشامل حفاظًا على مستقبل شبابنا.
الحقيقة أن هذه الجريمة يجب أن توقظ الجميع، وأن يتم التعامل معها على أن لها تداعياتها على مستوى الوطن وليس فقط على مستوى أسرة أو عائلة، فهي جريمة في حق الوطن لأنها أثارت الشكوك والرعب والغضب في نفوس كل أسرة خشية من أن يصل أبناؤها إلى هذا المستوى من الانحراف.
فهي علمتنا أن ليس هناك أي أسرة أو شاب محصن أو في مأمن من مثل هذا الوضع، فما الذي دفع هؤلاء إلى هذه الجريمة؟ فإذا نظرنا إلى وضعهم الأسري والنطاق الخاص الذي يعيشون فيه لم نجد ما يدعو إلى الانحراف، فهم من أسرة محترمة مستقرة ميسورة الحال، ودرسا في أرقى مدارس العاصمة، وليس هناك أي سبب ظاهر لنمو عقد خاصة تدفعهم إلى مثل هذا التصرف، فهي إذا جريمة منبتها مجتمعي متجاوز للظروف الذاتية والأسرية، وبالتالي يجب أن يتم البحث عن البذور التي أنبتتها وجعلت مثل هذين الشابين اللذين توفرت لهما كل وسائل الاستقرار النفسي والمادي عرضة لأعلى درجات الانحراف الذي يتجاوز كل المفاهيم الدينية والاجتماعية إلى درجة تحجر المشاعر الإنسانية والحيوانية الطبيعية.
يجب إجراء دراسات شاملة لنفسيات أمثال هؤلاء والظروف التي أنتجتهم لنعرف المؤثرات الحاسمة في نمو الأفكار التي تدفعهم إلى مثل هذا التصرف. كما يجب أن يتجاوز التعاطي مع هذا الأمر مسرح الجريمة إلى المجتمع كله لتحديد البذور والقابليات وعزلها، ومن ثم العمل على علاجها، وهو عمل يجب أن يشترك فيه أصحاب تخصصات عديدة من علماء اجتماع ونفس وتربية.. وغيرهم للإجابة عن عدد من التساؤلات الجوهرية مثل: دور المجتمع في إنتاج مثل هذه الخامات؟ وهل بيئتنا الاجتماعية تنتج شبابًا أكثر قابلية للانحراف بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى؟ وما مصدر هذه القابلية تحديدًا؟ وهل لمنظومتنا التربوية وخطابنا السائد دور في الأمر؟ وما هي الجهات المؤثرة في إنتاج مثل هذه البيئة المحفزة لبروز مثل هذه الحالات؟... وغيرها من الأسئلة التي يجب أن تكون حاضرة في الذهن ونحن في مستهل تطبيق رؤية 2030 التي يشكل الشباب فيها حجر الزاوية فكرًا وتطبيقًا ما يستدعي أهمية كبيرة لإجراء دراسات مقارنة معمقة للمجتمعات المختلفة ولموجهات سلوك الشباب فيها، ومن ثم بناء استراتيجيات شبابية تحمي شبابنا من الانحراف وتحول طاقاته إلى خدمة المجتمع والوطن بناء على نتائج هذه الدراسات.
** **
- مدير جامعة الأمير سلطان