د. حمزة السالم
من الحياة الروحية في الدرعية الأولى وحياة الواقع مع القرآن وكتب الحديث وميادين التدريب والكر والفر في حرب الخليج، إلى أمريكا والكفاح لحفظ وعدي لعمي عبد العزيز، والتحسر على فراق بساط المشيخة، والبكاء شوقا لساحات البيت العتيق، إلى التعود على الحياة الأمريكية والتمكن الدراسي، بعد تجاوز مرحلة الكورسات في الدكتوراة.
فقد شكوت لعمي عبد العزيز غلاء بوسطن وطلبت منه الإذن لي بالانتقال لجامعة أخرى اقل مستوى ولكنها في ولاية ترخُص فيها تكاليف المعيشة. فأمرني بشراء بيت على حسابه والبقاء في جامعتي. فذلك كان أول منزل ملكته، وآخر منزل كذلك. وامتلاك منزل يُوطن الأنفس فتألف البلاد، ولذا ترى الكثير من شيبنا يمنع ابنه حتى من امتلاك سيارة، فيأمره بالاستئجار ولو كان ذلك مكلفا.
وقد طرح الله البركة في ذلك المنزل ببركة مال العم، فبعته بعد انتهائي من الدراسة، بضعف سعره، ثم ما زلت أقلب ثمنه، فيتولد منه مثله، فأنفقت منه سنوات أضعاف مضاعفة من دخلي السنوي. فقد نقلني ذلك المنزل من معيشة الكفاف لمعيشة الأثرياء، من لحظة امتلاكي له. فحتى رواتبي تباركت ببركة ذلك المنزل.
ولا عجب، فكسب العم مالا كريما لم تشبه شائبة فساد ولا مسألة، ولذا أحرص أن آكل من مائدته ما استطعت، كان غداء أو عشاء.
وقد مررت بورطة المشرف مع بداياتي في الرسالة، فكان التخلص منها مؤلما لكنه نافعا. فالتحدي يخلق العجائب، فقد اُشتُرط علي جعل مشرفي السابق عضوا في لجنة التحكيم، ليتحداني. فما مرت فترة بسيطة، حتى ما عاد يشكل تحديا.
وقد كانت حياتي في أمريكا مليئة بالتحديات الدراسية عموما، فلم يكن هناك مجال للترف الفكري. وأقصد بالترف الفكري، أي الانطلاق بحرية في فضاء التفكر بالمُسلمات. ولكنها كانت بلا شك مرحلة إعداد منطقي وتجهيز عقلي. وهي وإن كانت فترة تلقي وتعليم، لكنها لم تكن فترة اتباع وتسليم. فخارج الدراسة لم أكن أستمع الا لمناقشات النواب والكونجرس المحلي والفدرالي، واللقاءت الحوارية الراقية. وأذكر إني لم أدخل سينما أو أشاهد فيلما ومن منتصفه إلا في السنة الأخيرة بالصدفة على التلفاز. وقد كان فيلما تاريخيا وثائقيا عن الساموراي، فأعجبني ذلك. فالتلفاز لم يدخل منزلي إلا في السنوات الأخيرة، فما كان في بيتي تلفاز ولا كاميرا في السعودية ولا في بدايات حياتي في أمريكا. إنما أدخلته بعد ذلك، بناءا على رغبة العم الذي كان يخشى لجوء أولادي لمشاهدته عند الغير.
وأما في الجانب الدراسي، فقد كانت الرسالة تعتمد على نماذج إحصائية متطورة وحديثة، من لم يكن ضليعا جدا بالرياضيات لا يستطيع فهمها، أو التعامل معها. خاصة وأنه ليس هناك أعمال سابقة بها. وقد كنت ضعيفا في الرياضيات بالجملة لأني لم أدرسها في الثانوية في القسم الأدبي. وما اشتُرِط علي دراسته قبل الالتحاق ببرنامج الدكتوراة كان كثيفا جدا. فلم يكن هدفي إلا النجاح بدرجة جيد جدا في تلك المواد، التي زادت عن عشرة كورسات. وقد غطت المواد تخصص الرياضيات لمرحلة البكالوريس وبعضا من مرحلة الماجستير في الرياضيات. وقد كنت حينها، أدرس متزامنا معها الماجستير في إدارة الأعمال. فكان تحصيلي العلمي للرياضيات ضعيفا. فشكل ضعفي رياضيا، تحديا كبيرا لي في الرسالة. فلجأت لطريقة الاستنباط والفهم باستخدام البرامج الإحصائية المتطورة. فكنت أجرب وأرى النتائج وأعيد التجربة مرارا مع تغييرات في كل مرة حتى يتضح لي نمطا منتسقا منضبطا، ومتوافقا مع منطق البحث. فأفهم معادلات النماذج حينها. ولعلي أول من وضع وصفا كتابيا غير رياضي لهذه النماذج المتقدمة الحديثة. وقد كان هذا سببا لطلب جامعة جنوب كالفورنيا الالتحاق بها كأستاذ زائر. ولم أكن حرا، بل ضابطا على ملاك وزارة الداخلية، التي نقلني لها العم ليجبر عثرتي حين استقلت من الحرس الوطني مجاورا البيت العتيق. فعرضت الأمر على العم فأجابني بعبارة أهل نجد المشهورة «أها بس، عود».
فعدت للديار كما غادرتها، درويشا لكني لم أعد درويشا ساذجا كما خرجت، بل عدت للديار درويشا متسائلا. وللحديث بقية.