د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لماذا لا نكرِّم المبدع إلا إذا مات؟ لم لا نتنبَّه إلى استثنائية الأشخاص إلا بعد أن يغادروا هذه البسيطة؟ ما السبب الذي يجعلنا نتجاهل المميزين وقت حياتهم؟ وما الذي يؤدي بنا إلى أن نستيقظ فجأة لنتسابق إلى تكريمهم بعد أن يفوت الأوان؟ لماذا لا نتذكَّر إنجازات المبدعين إلا حين تفيض أرواحهم إلى بارئها؟ لماذا لا يُكرَّم صاحب الإبداع المستحق للتكريم أثناء حياته؟ لم لا يتحقق الاهتمام به من قبل مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني إلا بعد رحيله؟ وما هو الدور المنوط بوزارة الثقافة والإعلام في هذا الشأن؟
إنَّ القريب من مشهدنا الثقافي يلحظ أنَّ تكريم المبدع بعد وفاته يكاد يكون ظاهرةً متأصلة، حيث يرى بعض المثقفين أنَّ السبب وراء هذا يعود إلى أنَّ هذا المبدع يمثِّل مصدر إزعاجٍ اجتماعيٍّ أو حكومي، إذ يكون في الغالب معارضاً ومختلفاً عن السائد، غير راضٍ بحياة القطيع، فهو في حياته أقرب إلى شرٍّ لا بُدَّ منه، فإذا مات فربما تنبهتْ المؤسسة الرسمية إليه، وسمحتْ لزاويةٍ إعلاميةٍ أو منفذٍ ثقافيٍّ بالإشادة به وبمناقبه التليدة التي لم يتنبَّه إليها أحدٌ في حياته، وأضحى هذا التكريم -إن صحَّتْ التسمية- لا قيمة له، بل ربما أضاف هماً جديداً على أسرته!
بينما يرى آخرون أنَّ السياق الاجتماعي غير الحضري - الذي لم يصل لدى الكثير من مجتمعاتنا العربية إلى الحالة المدينية التي تستوعب سياقاتٍ اجتماعية حضرية مثل تكريم المبدعين في حياتهم- هو المسؤول الرئيس عن تأصُّل هذه الظاهرة، وغياب التكريم إبَّان الحياة، ثم إنَّ من الأسباب أيضاً تراجع المؤسسات الثقافية نفسها وعدم اهتمامها بالجانب الثقافي والإبداعي، وانشغالها بأمور أخرى لا علاقة لها بمهمتها الرئيسة.
إنَّ الناظر اليوم في حال المجتمعات المتقدِّمة يرى أنَّ الشاعر أو الروائي أو الفنان التشكيلي يُعدُّ في رؤيتها هو رأس المال الذي تفخر به وتفاخر، بل إنَّ تاريخ الأمم يمكن في كثيرٍ من الأحيان أن يُلخَّص من خلال المبدعين الكبار، فيقال: أسبانيا (لوركا)، أو بريطانيا (شكسبير)، أو فلسطين (محمود درويش)، بينما المجتمعات المتخلفة هي تلك التي تسيء إلى مبدعيها وتحتقر إنجازاتهم، بل إنها تنظر إلى الثقافة برمتها نظرة ازدراء وسخرية، غير مستوعبة لأهميتها في التطور الفكري والحضاري.
إنَّ الحقيقة المؤلمة أنَّ مجتمعنا لا يزال يتعامل مع المبدعين بنوعٍ من الازدراء والتهميش، فليس لهم أي امتيازات تُذكر، بل إنَّ بعضهم دون عمل، وإن كان فلا بيت يملكه ليسكنه، ولا تأمين صحيا ولا علاج، بل حتى إنَّ مؤلفاته لا تجد النشر اللائق، أما حين تتم دعوتهم إلى مهرجانات أو مؤتمرات فآخر ما يفكر به الداعون هو صرف المكافآت المالية لهم، وهي مكافآتٌ مخجلةٌ لا تليق بمبدع أفنى حياته في خدمة ثقافة بلده والنهضة بها.
ثم حين يموت هذا المبدع -ربما أسىً وقهراً- تتفاجأ بمقدار الحزن الذي يسود، والمحزن أكثر عندما يتم تتويج هذا الحزن بإنشاء (هاشتاق) لا يتجاوز التفاعل فيه يوماً أو يومين ثم ينصرف الناس إلى (هاشتاقات) أكثر أهمية تخص (مشاهير) وسائل التواصل الاجتماعي وإنجازاتهم العظيمة! أما إن حالف الحظ هذا المبدع، وصارتْ المؤسسات الرسمية كريمةً معه، أطلقتْ -بعد تفكير طويل واستخارة متكررة- اسمه - رحمه الله- على شارعٍ مظلمٍ في حيٍّ من الأحياء الغابرة، وكأنَّ إطلاق هذا الاسم على الشارع نوعٌ من إعلان البراءة من دم المبدع!
إنه لمن المؤسف حقاً أن يكون الاهتمام بالمبدع بعد رحيله سمةً سائدةً ليس على المستوى المحلي فحسب، بل حتى في ثقافات دول العالم الثالث والدول العربية منها، حيث تتسابق لتكريم المبدعين بعد رحيلهم والاحتفاء بهم وتسمية الشوارع والميادين بأسمائهم ونشر إبداعاتهم مجددا، وأظنُّ أنَّ جميع الأسباب التي تعزِّز من هذه السمة -سياسيةً أو اجتماعيةً أو سيكيولوجيةً- تصبُّ جميعها في ثقافاتٍ تقدِّس الموت وتزدري الحياة!
بل ربما يكون أحد الأسباب العميقة لهذا الاحتفاء المـتأخر هو أنَّ الأحياء -أفراداً ومؤسسات- يحتفون بأنفسهم من خلال انتسابهم لإبداعات المبدعين، وتوظيفها سياسياً وإيديولوجيا لتصب في مصلحتهم وتعزز بقاءهم.
إنَّ المتأمل اليوم في الثقافات الإنسانية المتقدِّمة يرى بوضوح أنَّ التكريم والاحتفاء بالمبدعين الحقيقيين يتم في حياتهم، ويلحظ أنَّ الجوائز الأدبية الكبرى في هذه الثقافات لا تُمنح إلا لمبدعين أحياء، احتفاءً بالحياة لا بالموت، كجائزة (نوبل) و(غونكور) و(بوليتزر) وغيرها من الجوائز الأدبية التي يمثِّل الحصول عليها تتويجاً واحتفاءً بالمبدع في حياته.
يقول أحد المثقفين: نرتبط -ربما كعرب- مع الحياة من خلال الفعل الماضي (كان)، نعشق الماضي إلى حد تحويل نا الحاضر والمستقبل إلى ماضٍ كي نستطيع التعاطي معه، ومن ثم البكاء على أطلاله، ولهذا النسق العجيب في التعاطي مع الأحداث والأشخاص انتشار يشمل حتى المؤسسات الرسمية، إنَّ على المبدع أن يموت حتى يكون له وجود على خريطة الاعتراف والاحتفاء رسميَّاً، ربما أنَّ جملةً مثل (تقصير المؤسسات) لا تعطي الوصف المناسب لما يمر به المبدع من تهميش وتجاهل متعمَّد في الغالب الأعم من حالات التهميش، بل الإقصاء، بل إنَّ هناك نوعاً من الإجرام المنظَّم تجاه قتل المبدع قبل موته فيزيائياً، هذا الإجرام للأسف تقوده المؤسسات الرسميَّة (الداعمة) وعصابات المكاسب والمصالح المتقاطعة، أظن أنه يتوجَّب علينا الموت لنحظى ببعض الدعم!