د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
تعبر اللغات عن تفاصيل مستعمليها، وهذه عربيتنا الضاربة في عمق التاريخ ذات تراث لفظي هائل معبر عن تفاصيل حياة البادية، وهي تفاصيل ربما ورثتها اللهجات وزادت عليها أو تركت بعضها، ولكن مجتمعاتنا التي مالت إلى حياة المدن وابتعدت عن حياة البادية فاتها ما يتصل بهذه البادية من ثقافة لغوية، فلم يعد الفرد قادرًا على تسمية ما قد يصادفه من نباتات الصحراء إن أتيح له زيارتها زيارة عجلى، ولا هو مميز بين أنواع المطر ولا ما تشتمل عليه ثقافة الوادي من معان وألفاظ، وحسبنا أن نورد هنا جانبًا من هذا الأمر المغيب المجهول لبعدنا عنه ولاستغنائنا عن استعمال ألفاظه.
الوسم أثر كيّ يراد به بيان ملكيّة الحيوان الموسوم لمعرفته إن تعرض لسلب، ومن طرائف ما سمعته أن أحد أبناء المذنب صحب أخاه الأعمى إلى بريدة ليشتريا ناقة، فلما عثر على ناقة أعجبته طلب أخاه الأعمى ليأخذ رأيه بالناقة، فلما تحسسها الأعمى قال لأخيه: الله يعميك، ذي ناقتك التي سرقت منك. عرف الأعمى ذلك من الوسم عليها.
نجد في معجماتنا العربية أسماء مختلفة للوسم حسب موضعه من الحيوان الموسوم، أو حسب شكل الوسم نفسه، من ذلك قول ابن دريد «والْمِحْدَج: ميسَم من مياسم الْإِبِل على أفخاذها»(1). وقال ابن سيده «والمِحْدَجُ: ميسم من مواسم الْإِبِل. وحَدَجَه: وسمه بالمحْدَج»(2). ولا نجد تفسيرًا لعلة تسمية الميسم على الفخذ محدجًا، ولعله ميسم يشبه آله الحدج وهي العصا، جاء في (المحيط في اللغة) «وحَدَجَه بالعَصَا: ضَرَبَه بها»(3). ومنها «والدِّماع: مِيسَم فِي مجْرى الدمع»(4). «والعِراض: مِيسم فِي عُرْض الْعُنُق من الْبَعِير»(5) أي في وسط العنق. «واللِّهاز: مِيسم من مَياسم الْإِبِل»(6)، وسمي بذلك لأنه في اللهزمة، و»اللِّهْزِمَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالزَّايِ عَظْمٌ نَاتِئٌ فِي اللَّحْيِ تَحْتَ الْأُذُنِ وَهُمَا لِهْزِمَتَانِ وَالْجَمْعُ لَهَازِم»(7). «والعَلْط: مِيسم فِي عُرْض خدّ الْبَعِير»(8)، وسمي بذلك من موضعه وهو صفحة العنق، إذ «العِلاطُ، ككِتابٍ: صَفْحَةُ العُنُقِ، وهُما عِلاطانِ، و[والعلاط] من الحَمامَةِ: طَوْقُها في صَفْحَتَيْ عُنُقِها بسَوادٍ، وخَيْطُ الشمسِ، والخُصومةُ، والشَّرُّ، وحَبْلٌ يُجْعَلُ في عُنُقِ البعيرِ. وعَلَّطَهُ تَعْليطًا: نَزَعَه منه، وسِمَةٌ في عُرْضِ عُنُقِه، كالإِعلِيط، كإِزْمِيلٍ. ج: أعْلِطَةٌ وعُلُطٌ، ككُتُبٍ. وعَلَطَ الناقةَ يَعْلِطُ ويَعْلُطُ وعَلَّطَها: وسَمَها به، وذلك الْمَوْضِعُ من عُنُقِه: مَعْلَطٌ ومُعْلَوَّطٌ، مفتوحةَ اللامِ والواوِ الْمُشَدَّدةِ»(9). «والعِراض: مِيسم فِي عُرض الفَخِذ» أي وسطه، «والعراض: وسم بالفخذ معترض»، «والعراض: وسم بالأذن والخدِّ»(10) . وقال الأزهري «وغِفارٌ: مِيسمٌ يكون على الخدّ»(11)، وسمي بذلك لموضعه، قال ابن سيده «والغَفَر، والغُفَار، والغَفير: شَعر العُنق واللحيين والجبهة والقفا»(12). ومن المياسم الدماع و»الدِمَاع مِيسَم فِي المناظِر سَائل إِلَى الْمَنْحِرْ»(13)، وسمي بذلك لموضعه إذ «الدُّمَاعَ أَثَرُ الدَّمْعِ عَلَى الْخَدِّ»(14). ومن المياسم «اللِّحَاظُ: مِيسَمٌ من مُؤْخرِ العَيْنِ إِلَى الأُذُن وهُو خَطُّ ممْدُود، وربْما كانَ لِحَاظَيْن من جانبين، وَرُبمَا كانَ لِحَاظًا وَاحِدًا من جَانب وَاحِد»(15) . و»الذَّابحُ: مِيسَمٌ على الْحَلْقِ فِي عُرْضِ العُنُق»(16). و»القِصارُ: مِيسمٌ يوسم بهِ قَصَرة العُنق»(17) أي أصلها. «فَأَما الطّابَعُ فَهُوَ مِيْسَمُ الفَرائضِ، يُقَالُ: طَبَع الشَّاةَ»(18)، والفرائض جمع فريضة أي ما فرض من زكاة الإبل والغنم. «والأثْرة: مِيسمٌ فِي خُفّ الْبَعِير»(19). و»الصَّليب: مِيسَمٌ فِي الصُّدْغ وَفِي العُنُق، خَطَّان أحدُهما على الآخر، يُقَال: بَعِيرٌ مَصْلوب، وإبل مُصَلَّبة»(20). قال الأزهري «والخداد: مِيَسمٌ في الخَدِّ»(21). ومن المياسم ما يعرف بشكله، قيل «ورِجْلُ الطائِرِ: ميسَمٌ»(22). وذكر ابن السكيت من المياسم الخباط، قال «وأما الخباط فهو خط معترض في الفخد»(23)، «والمحجن خط في طرفه مثل محجن العصا أينما وضع من الجسد»(24)، والمحجن هو الحجنة المعروفة وهي عصا ذات فرعين على هيأة الرقم 7، ولها غير استعمال فقد تشد إلى مرس أو شبكة لتكون خطّافًا يشد الأحمال، وقد تثبت في نهايتيها سيران من المطاط بينهما رقعة جلد لتستعمل أداة صيد للطيور أو رجمها. وقال ابن السكيت «والخطاف أن يُخط خط حيثما كان ثم يعوج له رأس كذا ورأس كذا كأنه كلاب رحل، والمشط ثلاثة خطوط يفترق رؤوسها من أعلى ثم تجتمع، والخطام ميسم على أنف البعير يقال ناقة مخطومة، والمحلق الذي في عنقه حلقتان»(25). وذكر ابن السكيت طائفة من المياسم، قال «ومن المواسم العتيقة التي في النجائب مواسم بالشفار وبالمرو، ومنها الحزّة وهي حزة تحز بشفرة في الفخذ أو العضد ثمّ تفتل فتبقى كالثؤلول، ومنها الجرفة وهي حزة أعظم من هذه تحز ثم ترفع فتستبين شاخصة، ومنها القرعة وهي قرعة بشفرة أو بمروة تكون على الساق أو العضد، ومنها القرمة وهي حزة تحز على أنف البعير ثم تفتل فتبقى قائمة كأنها زيتونة، وهي من مواسم الشاء، والترعيل من مواسم الإبل يقال ناقة رعلاء وأينق رعل وهو أن يشق شقة من أذنها ثم تترك مدلاة»(26). وقال «ومن المواسم الإقبالة والإدبارة والناقة مقابلة مدابرة، وهو أن تشق أذن البعير من مقدمها ثم تفتل فتصير مثل الزنمة، فهذه المقابلة، فإذا شقت من خلفها وفتلت فهي المدابرة، والخرق والشرق من الغنم دون الإبل، والخرق أن تفرض قطعة من وسط الأذن فتبقى خريقة فتسمى خرقاء، والشرق أن يُشق شق في الأذن فتسمى شرقاء، والصيعرية ميسم كان للملوك»(27).
سردت ذلك على الرغم من أنه قد يهب مللًا للقارئ لأبيّن مدى ابتعادنا عن كنوز لغتنا ومفردات حياتنا الماضية، والمتأمل في عربيتنا المعاصرة يدرك بوضوح أنها ليست على مستوى تراثها الضخم من حيث ما يستعمل من ألفاظ؛ ولذلك مات كثير من الألفاظ وبهت ما بينها من اختلاف في معانيها. وهو أمر جدير بالمعالجة.
... ... ...
(1) ابن دريد، جمهرة اللغة (ح د ج).
(2) ابن سيده، المحكم، (حدج) 3: 62.
(3) ابن عباد، المحيط في اللغة، (حج) 2: 396.
(4) ابن دريد، جمهرة اللغة، (دمع) 2: 664.
(5) ابن دريد، جمهرة اللغة، (عرض) 2: 748.
(6) ابن دريد، جمهرة اللغة، (لهز)، 2: 827.
(7) الفيومي، المصباح المنير، (لهز).
(8) ابن دريد، جمهرة اللغة، (ع/ل/ط)، 2: 916.
(9) الفيروزبادي، القاموس المحيط، (علط)، ص 678.
(10) الخليل بن أحمد، العين، (عرض) 2: 295.
(11) الأزهري، تهذيب اللغة، (غفر)، 1: 292.
(12) ابن سيده، المحكم، (غ/ف/ر)، 5: 500.
(13) الأزهري، تهذيب اللغة، (دمع)، 2: 153.
(14) ابن فارس، مقاييس اللغة،(دمع) 2: 301.
(15) الأزهري، تهذيب اللغة، (لحظ)، 4: 264.
(16) الأزهري، تهذيب اللغة، (ذبح)،4: 273.
(17) الأزهري، تهذيب اللغة، (قصر)،8: 280.
(18) الأزهري، تهذيب اللغة، (طبع)،9: 15.
(19) الأزهري، تهذيب اللغة، (روق)، 9: 218.
(20) الأزهري، تهذيب اللغة، (صلب)، 12: 139.
(21) الجوهري، الصحاح، (خدد)، 2: 468.
(22) الجوهري، الصحاح، (رجل)، 4: 1704.
(23) ابن السكيت، الكنز اللغوي في اللسن العربي، 134.
(24) ابن السكيت، الكنز اللغوي في اللسن العربي، 134.
(25) ابن السكيت، الكنز اللغوي في اللسن العربي، 134.
(26) ابن السكيت، الكنز اللغوي في اللسن العربي، 134.
(27) ابن السكيت، الكنز اللغوي في اللسن العربي، 135.