فيصل أكرم
من المعاني لكلمة (صياغة): حرفة عمل الحليّ من فضة وذهب ونحوهما، وإحكام الكلام، وإنشاء الأفكار وتكوينها وترتيبها كلاماً بأسلوب مناسب. أمّا كلمة (عكسية) فلا أظنها تحتاج لأي شرح يعكس معناها!
ما رأيته بحاجة إلى تبرير وإيضاح، هو السبب الذي جعلني أذيّل عدداً من قصائدي الأخيرة بعبارة (صياغة عكسية لقصيدة منشورة عام..) وهو سببٌ جوهريّ ناجمٌ عن مصداقية كلما اكتشفتها في الشعر ازددتُ إيماناً بأن القصائد شواهد مكتملة على أزمنة قد لا تكون حاضرة، ربما هي ماضية أو قادمة، غير أن حلول زمن كان مصاغاً في قصيدة قديمة يدفع شاعرها – إن كان لا يزال حيّاً، كما في حالتي – إلى وقفة تأمل تجعله يعيد صياغة تلك القصيدة ويعكسها على زمن كتابتها.. كشيء من الحسرة والدهشة ربما؛ وقد جاء ذلك – كلّ مرة – ليس دون تعمّد فقط، بل دون استيعاب كامل لأبعاد الشعر ومفارقاته اللا منتهية أبداً..
فقد درج الشعراءُ على كتابة (معارضات) لقصائد بعضهم، ولكنّ المعارضة شيء وما أعنيه هنا أشياء أخرى، ثم أن (تعكس قصيدتك) غير أن (تعارض قصيدة غيرك) وأنا قد تبنّيت الأولى في بعض الأحيان وأعرضتُ عن الثانية منذ زمن. وكمثال سريع وأقرب، قصيدتي المنشورة هنا في الأسبوع الماضي بعنوان (في الأزل القريب) وقد ذيلتها بعبارة (صياغة عكسية لقصيدة «في الأمد القريب» المنشورة قبل عقدين من الزمان)، لماذا؟
كلّ المعاني في القصيدة القديمة عكستها في صياغة القصيدة الجديدة بأقل عدد من تغيير الأحرف - ناهيك عن تغيير الكلمات- وكمثال بسيط يختزل كثيراً من الأمثلة المشابهة، أنني قلتُ في القصيدة القديمة:
(شعراؤنا.. ضعفاؤنا)
وكان ذلك في العام 1996 أي كان على قيد الحياة شعراء يعيشون بين الناس كأمراء، ولا يجرؤ أحدٌ أن يصفهم بالضعف، مثل نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري ومحمود درويش) رحمة الله عليهم جميعاً؛ كانوا من فرط شهرتهم وإعجاب الناس بهم يعيشون كأمراء حتى وهم في اغتراب عن أوطانهم. أمّا في مرحلتنا الآن، بعد رحيلهم وبعد انفتاح وسائل نشر الكلام، فقد بات الشاعرُ ضعيفاً على عكس ما كان، ويضيع كلامه، مهما يكن حجمه، بين عواصف من رمل الكلام. إذاً هم الشعراء الآن ضعفاء وليس قبل عشرين عاماً، لذا قلتُ في الصياغة العكسية:
(شعراؤنا.. أمراؤنا)
أي أنني أحيل القصيدة الجديدة محل القديمة عائداً بها عشرين عاماً، بعد أن فوجئتُ بالقصيدة القديمة وكأنها جديدة وكانت تتقدم وقتها بعقدين من الزمان!
لستُ أدري إن كنتُ استطعتُ التبرير والإيضاح بصياغة جيدة أم فشلت، غير أنني متأكد أن لا صياغة توازي الشعر، وأشكّ كثيراً في مهنة (النقد) وأراه عاجزاً كل العجز عن التطرّق لمثل ذلك، بخاصة أنني كثيراً ما لاحظتُ (صياغات عكسية لقصائد قديمة) أنجزها شعراء مشاهير فأخذها عليهم بعضُ النقاد بصفة (اجترار) وهي صفة خاطئة كلياً، وبعيدة كل البعد عن الإبداع الخارق الذي يكمن في أبعاد الشعر. وقد يكون الشعراء – وأنا منهم – غير متعمّدين وربما غير متنبّهين لهذه المسألة العكسية، ولكنني حين تنبّهتُ وجدتُ ضرورة التبرير، مع أنه في غاية الوضوح إذا نظرنا بعمق أن عنوان القصيدة القديمة كان (في الأمد القريب) وعنوان عكسها الجديدة (في الأزل القريب) ولكنني لا أثق أبداً بنظرة من نسمّيهم (النقاد) وما تلوكه أقلامهم من اجترار لكلمة (اجترار) دون وعي لصياغة العكس!
وكمثال آخر، قصيدة نشرتها هنا أيضاً - في الجزيرة - بتاريخ 21 فبراير 2013 جعلتُ عنوانها (سَكَنات الفصول) وذيّلتها بعبارة (صياغة عكسية لقصيدة «حركات الفصول» المنشورة عام 1998) والحالة مع هذه القصيدة وصياغتها العكسية مغايرة تماماً للحالة المذكورة آنفاً؛ إذ أن (حركات الفصول) كانت في زمن كنا نؤمن فيه بمبادئ الحرية والمقاومة والنضال وغيرها فقلتُ:
(أن تسمع صوتاً يشبه صوتكَ
وترى وجهاً يشبه وجهكَ
وإذا تنظرُ خلفكَ..)
أمّا في زماننا الراهن، فقد وجبت (الصياغة العكسية) التي جعلتني أعكس الحركات بالسكنات فأقول:
(أن تسمع صوتاً، ليس كصوتكَ
وترى وجهاً، ليس كوجهكَ
وإذا تنظرُ في مرآتكَ..)
وهكذا، أرجو أن أكون أوصلتُ ما أريد إيصاله بهذه المقالة من تبرير وإيضاح لمعنى (الصياغة العكسية) للقصائد في الشعر.. فقط الشعر، ولا قصائد من دون شعر.