تحدثنا في المقالة السابقة عن محمد بن عبدالله المليباري باعتباره واحدا من أشهر خصوم الحداثة ، وعن موقفه من كتاب الخطيئة والتفكير .
كان مما أثاره المليباري أيضا حول كتاب (الخطيئة والتكفير) البعد الديني في عنوان الكتاب والذي اعتبر أن فيه إشارة إلي (عقيدة الصلب والتكفير) التي تزعم أن المسيح جاء ليخلص البشر من ذنوبهم ويكفر عنهم بصلبه.( لاحظ عمق الاختلاف بين دلالتي هذه الكلمة «التكفير» لدينا ولدى الآخر الغربي أو المسيحي )هذه الإشارة كانت مما يزيد من توجس هؤلاء المحافظين المتوجسين والمتخوفين بطبيعتهم من الحداثة ومن كل جديد (وهو ما تعبر عنه الذات التقليدية بطبيعتها باستمرار وفي كل حين) .وكان من شأن ورود مثل هذه العبارة أن يعزز أو يؤكد شكوكهم وظنونهم وهواجسهم القائمة . لم يكن استخدام الغذامي بالطبع لهذا التعبير) الخطيئة والتكفير ) إلا استخداما استعاريا لوصف اعتزال حمزة شحاته الناس وانكفائه على نفسه وبعده عن المشاركة في الفعاليات الثقافية التي كانت ستمنحه حضورا معنويا ورأس مال رمزي كبير ضحى به شحاته متعمدا وكأنما يكفر عن ذنب أرتكبه في حياته( الانغماس فيها) أو يكفر عن خطيئة وجوده ومجيئه إلى هذا العالم.
كان الغذامي يقارن حمزة شحاته بأبي حيان التوحيدي الذي عاقب نفسه بحرق كتبه تكفيرا عن خطيئته، ومن المعروف أن هذه الحالة تتكرر عند أدباء آخرين غيرهم مثل أبي العلاء المعري مثلا والذي يحفل شعره بالتعبير عن مثل هذه الرؤية «هذا جناه أبي علي * وما جنيت على أحد»). بالطبع يمكننا هنا أن ننظر إلى هذه المسألة من بعد فلسفي أوسع وأشمل مستضئين برؤية الفيلسوف مارتن هايدجر للوجود( المستمدة من تجربته الخاصة في القلق)* حيث يمكن أن تُظهر لنا هذه الرؤية حمزة شحاته يعاقب نفسه على اختياره الانخراط بعالم الوجود الزائف بعد أن تبدى له المعنى الحقيقي للوجود والذي يدركه الإنسان عادة حينما يدرك أنه محكوم بالعدم والفناء في هذا العالم الذي جاء إليه منذ البداية دون اختيار وحين يتكشف ل(الأنا)بأنها ملقاة هناك في العراء، على قارعة الوجود مرغمة على الاختيار بين شكلين متعارضين لهذا الوجود، هما :
الأول : الوجود الأصيل الذي تستشعر فيه (الأنا) عزلتها في هذا العالم بصورة قاسية ، وهو وجود مفعم بالقلق، وقلة من الناس من تختاره. هؤلاء القلة يقبلون التعايش مع القلق الذي يدفعهم إلى اكتشاف حقيقتهم وماهيتهم «المحتجبة» بهدف تأكيد ذواتهم وتفردهم كأفراد يسعون إلى معرفة حقيقتهم ومعرفة معنى وجودهم الخاص ليكتشفوا لاحقا لا معقولية الوجود وخلو الحياة من المعنى ، ويكون عليهم من أجل الاستمرار في هذه الحياة أن يمنحوها هم المعنى.
الثاني : الوجود الزائف أو المبتذل: والذي تستغرق فيه (الأنا) في العالم والوجود الجماعي الذي هو في حقيقته نوع من عدم الوجود، ويعني هذا ألا يكون المرء ذاته، وتصبح (الأنا) شيئا آخر غير ذاتها. كل ذلك يحدث هروبا للأنا من القلق والعزل . في هذا الوجود يظهر حمزة شحاته مستشعرا غربته عن هذا العالم وعجزه عن التواصل معه :«إنها ساعة حرجة أن تدور بعينيك محملقاً في جميع الوجوه والعيون فلا تجد من يفهمك». هذا الوجود الذي يسميه هايدجر( السقوط) يمتاز بعدد من السمات منها: الثرثرة اليومية حيث تقطع (الأنا ) كل صلة لها بالوجود الأصيل، وتصبح هذه الثرثرة مقياسا لمعرفة المرء (ويستقي من خلالها معرفته ). والفضول الزائف بدافع الهروب من الذات، والتسلية، والضياع في الأشياء، وهو يحجب الطبيعة الأصلية للإنسان فيغدو بلا رغبة بفهم الوجود والنفاذ إليه، هذا الفضول يخدع (الأنا) فتتوهم أنها تحيا حياة حقيقية غير زائفة. وأخيرا : الالتباس الذي يحدث للإنسان عندما يصل إلى مرحلة من الابتذال، يصعب عليه فيها التمييز بين الحياة الحقة الأصيلة والحياة المبتذلة.
- محمد الدخيل