د. عبدالحق عزوزي
يقول ابن خلدون في مقدمة مقدمته، وهي الجزء الأول من كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد عن إخبار عن الأيام والدول (...) وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق... ولعل الكتاب الأخير للمفكر الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي، الذي صدر حديثاً بعنوان «بصمات خالدة.. شخصيات صنعت التاريخ وأخرى غيّرت مستقبل أوطانها»، ينطبق عليه كلام ابن خلدون لأن الكاتب فاض واستفاض في تبين أسباب الوقائع والأحوال ورفض فيها ترهات الأحاديث ودفعها، خلافا للبعض حيث إن التحقيق عندهم قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتطفل على العلوم عريض وطويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.
والكتاب يتضمن 22 شخصية عالمية بارزة، لها بصماتها الخالدة على تاريخ بلادها والعالم في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية والفكر والعلم وغيرها حتى إنه لم يتغاض عن ذكر علماء في مناح شتى مثل ألبرت إينشتاين، وستيف جوبز، ومثّلت مواقفها وإنجازاتها وإبداعاتها وعبقريتها وقوة إرادتها، مصدر إلهام لأجيال بعد أجيال، وذلك في مسعى من الكاتب المبدع إلى تقديم نماذج مضيئة لأفهام العلماء والخاصة والعامة تقريبا ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها حتى تنزع من سوء الفهم يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك.
يصعب الحديث عن كل الشخصيات التي تناولها الكتاب في هاته المقالة، ويكفيني هنا ذكر ثلاث شخصيات جاد الكتاب في ذكر بصماتها الخالدة ولبلدانها في قلبي مكانة خاصة، وهي سيرة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حيث إن «عبقرية القيادة» هي الملمح الأبرز في شخصية مؤسس اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، لأنها هي التي حكمت كل مواقفه وقراراته وكانت العامل الحاسم في إنشاء الاتحاد، ومفتاح فهم شخصيته وفلسفته في السياسة والحكم والإدارة، ما جعله، يمثل مدرسة متكاملة في الحكم والسياسة والعلاقات الدولية، لا يزال نبعها فيّاضاً وإلهامها متألقاً، فلم يكن شخصية إماراتية عظيمة فحسب، وإنما كان رمزاً خليجياً وعربياً وإسلامياً، وعالمياً أيضاً.
وفي ثنايا الكتاب، يستعرض الدكتور جمال سند السويدي سيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، الذي كانت الوحدة محور تفكيره وتحركاته على مدى المراحل المختلفة من حياته، حيث آمن بالتعايش بين المذاهب والطوائف، وعمل على ترسيخ هذا المبدأ بشكل عملي، ونجح في إقامة دولة قوية بعد أن لملم شتات قبائلها ومناطقها وطوائفها تحت راية واحدة.
ولدى تناوله الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني، يقول الدكتور جمال سند السويدي في كتابه إنه «ملك الحكمة والتوازن»، حاز إعجاب العالم؛ بحكمته وحنكته السياسية الكبيرة وثقافته الواسعة، واستطاع هذا الملك أن يخلق كل التوازنات الضرورية داخليا وجهويا بعبقريته النادرة لتمكين بلده من الوصول إلى بر الأمان...
والأسباب التي يرى الكاتب أن الشخصيات قد رفعت من راياتها، وأظهرت من آياتها تكمن في ستة أسباب استوفى الدكتور جمال علاجها، وأنار مشكاتها للمستبصرين وأذكى سراجها: أولها، أن التفوق في حقيقته قرار وإرادة قبل أي شيء آخر، وأن مواجهة الصعاب مهما كانت كبيرة ومعقدة، ليست مبرراً للفشل أو الانكفاء على الذات، إذا توافرت الإرادة القوية والتصميم على النجاح.
وثانيها، أن العمل بروح الفريق هو أساس النجاح، فمهما كانت عبقرية الفرد، فإنه لا يمكنه تحقيق ما يريده إلا من خلال فريق يحسن اختياره. وثالث هذه الدروس، هو عدم الركون إلى ما قدمه الأسلاف أو النظر إليه على أنه منتهى ما يمكن أن يصل إليه الفكر الإنساني في مجالات السياسة والاقتصاد والعلم وغيرها، مهما كان عظيماً ومتفرداً. ورابعها، أنه حينما يتحول العمل إلى رسالة يظهر الإبداع والعبقرية. وخامسها، هو أن إيمان الإنسان بقدراته يمثل الخطوة الأولى نحو النجاح والتميز.
أما الدرس السادس والأخير، فإنه لا يوجد نموذج واحد للقيادة والتميز والإبداع على المستوى العالمي يمكن أن يسير على نهجه الجميع، وإنما هناك نماذج متنوعة، تفرضها طبيعة الظروف والتطورات في كل مجتمع من المجتمعات.