أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في سفسطات الزمان الكثيرة مقولتان: الأولى لأرسطو الذي جعل الزمان وجودياً؛ فيبدأُ الزمانُ عنده مِن قياس موجودٍ ما مُتحرِّكٍ.
قال أبو عبد الرحمن: الزمان مُتَصَوَّرٌ في العدم؛ وصِفتُه أنه سرمدي لا يقبل تحديداً ولا تجزئة؛ وهذا هو المطلق.. ولكنْ صحَّ بالبرهان العلمي: أنه لا عدمَ محضاً؛ بل العدمُ منتفٍ بوجودِ ربِّ الكائنات سبحانه وتعالى، ثم أصبح الزمان الوجودي القابلُ للتجزئة والتحديد توقيتاً لِمَعدوماتٍ من الْمَخلوقات، ثم وُجِدت.. والمقولةُ الثانية: مقولَةُ مَن زعم وهْمِيَّةَ الزمان.. على أنَّ الفيلسوفَ الألمانيَّ (أمَّانُوئيلَ كانْطْ) تلطَّف قليلاً؛ فلم يُطْلق الوهم؛ بل جعله شرطاً تصوُّرِياً حُرَّاً للعقل الخالص.
قال أبو عبد الرحمن: بل هو تصوُّرٌ ضروريٌّ؛ لأنَّ الوجود بغير زمان مُحالٌ في فطرة العقل وشاهِدِ الحِسِّ.. وأما الوهمُ فإساءةُ تعبير؛ والتعبيرُ الصحيح: أنَّ الزمانَ غيرُ مَحْسوسٍ، وليس كلُّ غيرِ محسوس وهْماً؛ بل هو علاقة مع الوجود الحاضِر والعدمِ الغائب بتعاقبٍ سائلٍ غيرِ قارٍّ ولا متناهٍ يصدر عنه مقالات معقولة أخرى كالقبل والبعد، والطول والقِصَر.. وأمَّا ما لَهُ أوَّلٌ وآخِرٌ فهو مظروفات الزمان؛ وليس للزمان الذي هو ظرف كقولنا: (لِـدولةِ بني العباس أوَّلٌ وآخِرٌ).. والعقلُ لا يقدر على تصوُّر ظهورِ الوجود الْـمُنظَّم من عدمٍ محض؛ بل من موجودٍ مُدَبِّرٍ؛ لأنَّ العدم لا يخلق شيئاً.
قال أبو عبدالرحمن: تَعَرَّض الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم [ ـ 456 هـ ] رحمه الله تعالى في كتابه (الفِصَلُ) لهذه المعضلة؛ فقال في أوَّلِ المجلد الأول: ((كلُّ شخص في العالَـم، وكل عَرَضٍ في شخص، وكل زمان.. كل ذلك متناهٍ ذو أوَّل.. نشاهد ذلك حِسّْـاً وعِيانا؛ لأنَّ تناهيَ الشخصِ ظاهرٌ بمساحتِه بأوَّلِ جِرْمِه وآخرِه، وأيضاً بزمانِ وجودهِ.. وتناهيْ الزمانِ موجودٌ باستئنافِ ما يأتي منه بعد الماضي، وفناءِ [أيْ وبعدَ فناءِ] كلِّ وقت بعد وجوده، واستئنافِ آخرَ يأتي بعده؛ إذ كلُّ زمانٍ نهايتُه الآن، [في طبعة دار الكتب العلمية علَّق المحقِّق بقوله: (كل زمان نهايته الآن) لعل الصواب أنْ يقول: (كل زمان مضى نهايته الآن) .. وهذا استدراكٌ سقيم؛ لأنَّ كلامَ الإمام عن النَّهاية؛ فما الداعي لكلمةِ (مَضى) الفضولِيَّةِ؟!]؛ وهو حدُّ الزمان؛ فهو نهاية الماضي، وما بعده ابتداءٌ للمستقبل؛ وهكذا أبدا يفنى زمان ويأتي آخر [في المطبوع من كتاب (الأصولُ والفروعُ): وكل عَرَضٍ في شخص، وكل زمان]؛ فالواو قبل (كل) فضول، ولم ترد جملة (كل شخص في العالَـم)!! .. وفي المطبوع من الأصول والفروع: (فمتناهٍ) بدون (كل ذلك).. وفيه: ((يُشاهِدُ ذلك كلُّ ذي حسٍّ وعيان؛ إذا تناهَى الشخص بجِرْمِه زمانُه.. وتناهَى المحمولُ في الشخص بتناهي حامِله، ويتناهَى الزمانُ باستئنافِ ما يأتي منه بعد الماضي، وفناءِ ذلك الوقت، واستئنافِ آخرَ يأتي بعده؛ إذْ كل زمان فتناهيه الآن، ويبتدئ غيره، ثم يقضى ذلك إذا بلغ إلى أنْ يقال الآن أيضاً))..وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة [في المطبوع من الأصول والفروع: (فمركبة) بدون (فهي)] من أزمنة متناهية ذات أوائل كما قدمنا.. قال أبو عبدالرحمن: هذه عبارات متلعثِمة، وللكلام عنها حديث يأتي إنْ شاء الله.. وقال أبو محمد رحمه الله تعالى: ((العالَم بكلِّ ما فيه ذو زمان لم ينفكَّ عنه قط.. ولا يُتَوَهَّمُ، ولا يمكن أنْ يخلونَّ العالَم عن زمان.. ومعنى الزمان هو مدة بقاء الجسم متحركاً أو ساكناً، ومدة وجود العرَضِ في الجسم؛ وإذْ الزمانُ مدة كما ذكرنا: فهو عدد معدود، ويزيد بمروره ودوامه.. والزيادة لا تكون ألبتة إلا في ذي مبدإٍ ونهاية من أوله إلى ما زاد فيه.. والعدد أيضاً ذو مبدإ ولا بد، والزمان مركَّب بلا شك من أجزائه، وكل جزء من أجزاء الزمان فهو بيقين ذو نهاية من أوله ومنتهاه..)).. وإللقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.