مقدمة
يمثل صيام شهر رمضان ركناً أساسياً من أركان الإسلام الخمسة. تحدّث القرآن الكريم (المصدر الأول لما يعرف بثقافة النقل في الإسلام) عن شعيرة هذا الواجب الديني في سورة البقرة، كما سنرى ذلك في الآيات القرآنية في آخر هذا المقال. أما العلم الحديث، فقد جمع الكثير من المعطيات الإيجابية المعرفية حول آثار ممارسة الصيام على البشر بواسطة التحليل العقلي (أو المعرفة الناتجة عن مدارك العقل). وهكذا، يقدم هذا المقال قول العقل والنقل بالنسبة لآثار الصيام على الإنسان.
العقل المسلم الجامع بين العقل والنقل
هناك في تراث الثقافة الإسلامية الأصيلة زمالة وصداقة بين الدين الإسلامي والعلم. فالعلماء والمفكرون والفقهاء المسلمون استعملوا العقل والنقل في تشييد معارفهم وعلومهم في التراث الفكري والعلمي الإسلامي. فليست مسيرة العلامة ابن خلدون المعرفية، على سبيل المثال، استثناء لهذا التوجه في الثقافة العربية الإسلامية العالِمة لما قبل فترة سقوط المجتمعات العربية والإسلامية تحت هيمنة الاحتلال الغربي المعاصر. إن الدرجة العالية لمشروعية تبني منهجية الجمع بين العقل والنقل (الزمالة والصداقة بين الدين والعلم) في العديد من ميادين البحث العلمي في الثقافة الإسلامية ظاهرة أصيلة في الحضارة الإسلامية. ومن ثم، يمكن اعتبار - بكل سداد في الرأي - العقل المسلم المكان الذي تلتقي فيه معرفة الوحي / النقل، من جهة، ونظيرتها العقلية / العقل، من جهة أخرى. إن الفقيه / العالم الشهير أحمد بن تيمية (1263-1328) هو أكثر العلماء المسلمين دفاعاً عن مشروعية الجمع بين العقل والنقل في الثقافة المعرفية الإسلامية. فكتابه «درأ تعارض العقل والنقل» خير مثال على ذلك. وهناك اليوم معالمُ جديدة في دنيا الفكر والعلم في الغرب ترغب وتبشر بوضع حد للطلاق بين الدين والعلم (Clayton, Simpson 2009). ويصح إدراج هذا التوجه الجديد في العلاقة بين العلم والدين أو العقل والنقل في رؤية فكر ما بعد الحداثيين (Lyotard 1984). وتماشياً مع هذا التحول نظمت مجلة علمية فرنسية في 2015 ندوة دعت إليها العلماء وممثلين عن الديانات الثلاثة (المسيحية والإسلام واليهودية) ونشرت محاضرات ومناقشات هذه الندوة في عدد خاص للمجلة Science et Avenir-janv-fev.2016) (بعنوان: Dieu et la Science (الله والعلم).
وعنون رئيس التحرير افتتاحية هذا العدد بكلمة حوارات Dialogues. تعزز تلك المعطيات المقولة المطروحة في هذه التأملات الفكرية حول مشروعية الجمع بين معرفة رصيديْ العقل والنقل في العالمين العربي والإسلامي على الخصوص.
تطبيق منظور إسلامية المعرفة
فلنبدأ بآخر أضواء العلم الحديث التي تمدنا بآخر الاكتشافات العلمية المفيدة حول آثار خصال الصيام على المخ البشري بالتحديد.
المخ والصوم
نشر بالفرنسية مؤلف كتاب (الصيام علاج جديد؟*) مقالا في عدد خاص لمجلة Le Point لشهريْ فبراير ومارس 2016 يثبت فيه الحكمة من شعيرة الصيام. نقدم هنا ترجمة وافية لمحتوى هذا المقال: يبرهن العلم الحديث أن الصوم - الذي كان يزعج الطب الرسمي المعاصر - أصبح وسيلة هامة لتجديد وإحياء نشاط المخ وقدراته. فظاهرة المصاحبة بين المخ والصيام كانت تبرز التآلف الكبير والمتين بين الاثنين منذ العهود الغابرة لمسيرة التاريخ الطويل للجنس البشري. فالناس الذين كانوا يعبدون القوى الطبيعية قد استعملوا الصيام لكي يتواصلوا مع القوى الخفية في الكون. ثم، جاءت الأديان بعد ذلك لتجعل من الصيام سبيلاً وشعيرة للقرب الروحي لهؤلاء الناس من الله. نقتصر هنا على ذكر بعض الاكتشافات العلمية الحديثة فقط حول التفاعل الإيجابي للمخ مع الصيام والمنافع التي يكسبها المخ من ممارسة تجربة الصوم. فعلى سبيل المثال يجوز طرح السؤال التالي بهذا الصدد: هل يا ترى إن وقائع وضوح الرؤية وتوقد الذهن وبُعد النظر / البصيرة لدى الصائمين - كبعض الخصال التي يُعتقد اقترانها بالصوم - هي حقائق فيزيولوجية فعلية وحقيقية؟
تغيّر رؤية الطب الحديث للصيام
فمن جهتهم، كان أطباء عصرنا الحديث يعتبرون دائماً أن الصيام أمر خطير، وبالتالي لا ينصحون به الناس. لكن الكثير من الاكتشافات العلمية طالما تكون نتيجة للصدف. وهذا ما وقع فعلاً بالنسبة إلى اكتشافات آثار الصيام على المخ وخلاياه. ففي عام 1880 قام طبيب أمريكي هو الدكتور دووي Dewey بملاحظة أساسية ورئيسية قلبت رأساً على عقب ما ذهب إليه هؤلاء الأطباء.. يتمثل اكتشاف الدكتور دووي في أن الناس الذين ماتوا جوعاً لأسباب قاهرة كانت أمخاخهم ونظم شبكاتهم العصبية في حالة سليمة بالكامل، وهو معاكس للغاية لما تعرضت له بقية كل الأعضاء في أجسام الناس الذين توفوا من قسوة الجوع.. ومن اللافت للنظر بهذا الصدد أنه حتى عند الموت جوعاً لاحظ الدكتور دووي أن النظام العضوي للمخ يبقى مزوداً بالغذاء.. وهي مفارقة تدعو إلى انتباه الطب الحديث.. إذ لُوحظ أنه عند الحرمان من الطعام لأكثر من 16 ساعة، يفرز الجسم عندئذ عنصر الغلوكوز - سكر العنب لتعويض الطعام المفقود، ويبدو أن المخ يجد لذة كبيرة في ذلك حسب الدارسين للعلاقة بين الصيام وتفاعل المخ معه. قد يفسر هذا الغلوكوز المعوّض للطعام المفقود جزئياً تحسّنَ العمليات الذهنية والفكرية أثناء الصوم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاع عالم الفيزياء الروسي فلدمير لشكوفتيف Valdimir Leshkovtiev أن يؤلف كتاباً ضخماً في حجم موسوعة كاملة في 21 يوماً فقط من الصيام. فقد رُوي عنه أنه ذكر للكثيرين أنه لم يكن يملك أبداً في حياته تلك القدرات الفكرية من قبل.
الصيام يحمي الأعصاب
تركز اليوم البحوث في المجتمعات الغربية على الحماية من أمراض تلف الأعصاب، ويبدو أن النتائج مذهلة فعلاً في هذا الميدان. فقد أثبت مارك ماتسون Mark Matson من المعهد القومي للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية أن الصيام المتقطع (أي بين فترة وأخرى) سمح لدى الفئران بالزيادة في مقاومتهم لمرضيْ الزايمر والبركنسون (شلل اهتزازي مع تعظم عضلي) وذلك بإفراز عناصر بروتينية لصالح النمو وبقاء الأعصاب في حالة استمرار وتواصل في التطور والنمو.. وتناسقاً مع مسيرة البحوث العلمية حول آثار الصيام على المخ، فقد بيّن أخيراً نجمُ علوم الشيخوخة فلتر لنجو Valter Lango أن صيام 5 أيام كل ثلاثة شهور يعمل لصالح تنشيط وبث أكثر حياة في أعصاب مخ حصان البحر، هذا الكائن الذي يشبه نصفه الأعلى الجواد والآخر السمكة. وهكذا يتضح أن الصوم يمثل وسيلة قيمة لتجديد تنشيط شبكة الأعصاب في المخ.
حكمة الصيام لأعز ما في الإنسان
فبعد ما رأيناه من حكمة فيزيولوجية وعصبية في الصيام بالنسبة للمخ أعز معلم في عمارة جسد الإنسان، ليس لأنه هو القائد المشرف على عملية التنسيق بين أعضاء عمارة الجسد فحسب، وإنما لأنه مركز إنسانية الإنسان نفسها والمتمثل في ما نسميه في مصطلحنا في العلوم الاجتماعية: البعد الثالث للإنسان أو منظومة الرموز الثقافية: اللغة والفكر والعلم والدين والقيم والأعراف الثقافية التي يتميز بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس على وجه الكرة الأرضية ويتفوق بها على بقية الأجناس الأخرى في إدارة ما يجري على سطح الأرض الأمر وفي السماء مما يجعله وحده حقاً الخليفة في الأرض، كما ورد في الآية القرآنية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.
حديث القرآن عن فريضة الصوم
بعد أن رأينا باختصار كيف أبرزت الاكتشافات العلمية الأخيرة (رصيد معرفة العقل) منافع الصيام على المخ وخلاياه ومداركه الذهنية، دعنا الآن نقرأ في القرآن الكريم (النقل) كيف تحدّثت آياته عن شعيرة فريضة الصوم في شهر رمضان بالنسبة للمسلمين. يجوز القول إن تلك الاكتشافات العلمية الجديدة المشار إليها لصالح منافع المخ من الصيام تمثل تصديقاً لما جاء في إحدى آيات القرآن الكريم الملخّصة لمنافع الصيام المتعددة للجسد وللأنشطة الذهنية والفكرية للمخ التي يتميز بها الإنسان عن بقية الكائنات»... {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 184).
أما النص الكامل للآيات القرآنية حول خصال الصيام والظروف المعيقة للقيام به فتلخصها ثلاث آيات طويلة من سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة 183-185).