كرم الله على عباده عظيم، فهو سبحانه الذي يمنُّ علينا بمواسم الخيرات، التي يضاعف فيها الحسنات، وقد دلَّنا عليها، وعرَّفنا بها، ومنها أفضل الشهور شهر رمضان المبارك، شهر اختصه الله بإنزال القرآن الكريم فيه من بين سائر الشهور، فهو شهر القرآن، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي - صلى الله عليه وسلَّم - القرآن في رمضان مرَّةً واحدة، إلا في رمضان الأخير لحياته - صلى الله عليه وسلَّم - فقد دارسه القرآن مرَّتين، وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلَّم - يزداد اجتهادا في العبادة في العشر الأواخر، فإذا دخلت العشر أحيا ليله وشدَّ مئزره، وأيقظ عليه، واعتكف في المسجد.
ولقد كان الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - يكثرون من تلاوة القرآن فيه، فمنهم من يختمه كلَّ ثلاث ليالٍ ومنهم كلَّ أربع أو خمس ليال، وفي العشر الأواخر ليلة القدر، خير من ألف شهر، وهي الليلة التي أنزل الله فيها القرآن، تتنزل فيها الملائكة ومعهم جبريل عليه السلام، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.. ولنا وقفات مع هذه العشر المباركة:
الوقفة الأولى: أهميَّة هذه الأيَّام وأنَّ لياليها أفضل ليالي العام على الإطلاق، ولله في كلِّ ليلةٍ منها عتقاء من النار، وقد أقسم الله بها في كتابه، فقال تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وهي على الصحيح ليالي العشر الأواخر من رمضان، فعلى المسلم أنْ يجتهد فيها اجتهاداً أكثر من غيرها.
الوقفة الثانية: أنَّ الفائز حقَّ الفوز، والمفلح حقَّ الفلاح هو من قام جميع ليالي هذه العشر، إيماناً واحتساباً، ولم يفرِّط في قيام ليلةٍ من لياليها، بل انقطع إلى العبادة، وعاشَ ما بين قيامٍ وتلاوةِ قرآنٍ ودعاءٍ وتضرُّعٍ وإنابةٍ واستغفار، ولم تشغله الدنيا ولم تثبِّطه عن الاجتهاد في الطاعات، فعاش حياةً إيمانيَّة، وتقرَّب إلى مولاه بما يحبُّ سبحانه من الأقوال والأعمال.
الوقفة الثالثة: إلى من أكرمهم الله بكثرة الأموال والأولاد، وأشغلتهم دنياهم عن نوافل الطاعات، عليهم أنْ يكثروا من فعل الصالحات في هذه الليالي والأيام، ومن أعظمها نوافل الصلاة والصدقة على المحتاجين والفقراء والأيتام والأرامل وأسر السجناء، والمساهمة في مشروعات الأوقاف، ودعم التكافل الاجتماعي بكافة صوره.الوقفة الرابعة: إلى المحتاج والفقير والمكروب والمريض، اجتهد في هذه العشر بالطاعات، وارفع اكفَّ الضراعة إلى الله بأن يغنيك من الفقر والحاجة، وأنْ يفرِّج كربك، وأنْ يشفي مرضك، فأكثر من الدعاء والجأ إلى الله لجوء المضطر الضعيف الفقير المحتاج، فبيده وحده الشفاء، وبيده سبحانه تفريج الكروب، وبيده وحده الأرزاق فهو الغني الكريم، ويده مَلأَى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنَّهار، قال الشاعر:
لا تَضَرَّعَنَّ لِمَخْلُوقٍ على طمعٍ
فإنَّ ذاكَ مُضِرٌّ منك بالدِّينِ
واسترزقِ اللهَ رزقاً من خزائنه
فإنَّما هي بقول كن فيكونِ
الوقفة الخامسة: إلى من رزقه الله صحةً وعافيةً في بدنه، استعمِل تلك الصحة والعافية في طاعة الله، واستثمر أوقاتك بكثرة العبادات ما دمتَ صحيحاً معافى، نشيطاً قوياً، فكم من مريضٍ تمنى الصحة ليجعلها في طاعة الله، فإيَّاك وإضاعة أوقاتك في المعاصي والغفلة ونسيان والتوبة والإنابة، ولا تشغلنك الملهيات، فإنَّما هي أيَّام وليال عشر، فالزم نفسك فيها بالطاعات، وجاهد واصبر وصابر في ذلك، وفقك الله.
الوقفة السادسة: إلى ربَّات البيوت من الأمهات والأخوات والبنات، احتسبن الأجر في صنع موائد الإفطار والسحور، ولا تشغلنكم عن قيام هذه الليالي، بل اصنعن ما يكفي، فإنما يسدُّ الجوع لقيماتٍ يقمن الصلب مما يكون فيه شبع لا تخمة فيه، ولا تفرِّطنَ في الأوقات ما بين ذهابٍ للأسواق وغفلةٍ عن الطاعات.
الوقفة السابعة: إلى المعتكفين في المساجد، إنَّما الاعتكاف لينقطع المرء إلى طاعة الله، ومن المعتكفين، من لا يرعى لهذا الجانب اهتماماً، بل يجعله محلاً للالتقاء والتعرف على الناس، وتبادل أطراف الحديث معهم، كأنَّما جعل معتكفه ملتقى يلتقي فيه بغيره، وهذا ليس مقصود الاعتكاف.
إضاءة: لكلِّ عملٍ ثمرةٍ، ولكلِّ تفريطٍ ندامة، ولكلِّ غفلةٍ حسرة، ولكلِّ توبةٍ فرحاً، ولكلِّ عملٍ صالحٍ جزاء، فمن أصلح عمله ولم يفرِّط ولم يغفل وتاب من ذنوبه فهو الناجي السعيد.
- خطيب جامع بلدة الداخلة في سدير