د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليس أقسى من اجتزاء التأريخ أو بتر الحقائق أو الاكتفاء بقراءة العناوين والانطلاق - من ثم - إلى الاقتناع بما تيسر من ذلك والمجادلة حوله وتبادلِه وتناولِه عبر التناقل الشفاهي والكتابي ليستقرَّ في أذهان كثيرةٍ بوصفه مسلماتٍ يصعب القرب منها أو الاعتراض عليها.
** ازداد الواغلون في هذه الزوايا والمتناقلون لها والمؤمنون بها بعدما تضاعف - في مقابلها - أعداد مؤجري أذهانهم لسواهم المرتضين بمن يفكر بالنيابة عنهم دون أن يعطوا أنفسَهم فرصةً للمراجعة أو البحث قبل التيه بها واعتماد صدقيتها، وربما اشتمل بعضها على ما يشبه «حديث الإفك»- حسبنا الله على من افتراه - والناتج هز الثقة بشخصيتنا الحضارية وتشتيت رؤانا المجتمعية.
** أحصى الدكتور خالد كبير علال - وهو باحث جزائري - في كتابه (مدرسة الكذابين في رواية التأريخ الإسلامي وتدوينه) الصادر عام 2003م - أكثر من ثلاث مئة وخمسين كذابًا تجاوزت مفترياتهم خمس مئة وسبعة وأربعين ألف حديث ورواية مكذوبة، وكثيرًا ما نقرأ عن المؤرخين من هو «صدوق» و»متروك» و»صدوق يُدلس» و»صدوق يخطئ» و»صدوق كثير الخطأ» و»ليس به بأس» و»كثير التدليس» و»متروك مع سعة علمه» وسواها من مصطلحات، ولم ينجُ من القراءة الفاحصة الناقدة كبار كابن إسحق، مثلما طالت بعضَهم إملاءاتُ الطائفية كاليعقوبي والشعوبية كابن المقفع، واستقبلنا وما نزال نستقبل قراءاتٍ موجعةً تدنس مراحل ممتدةً من عمرنا الحضاري وتُعزى لأسماءٍ حقيقية ومجهولة سعيًا لخدمة مرجعية ضيقة.
** إذا كان هذا شأنَ التأريخ مع ثقاته والحديث مع رواته فلعلنا لا نغفل عن تدليس السياسيين والإعلاميين والاقتصاديين والاجتماعيين والوعظيين عبر تسويق أفكارهم بما يلائم اتجاهاتهم ومصالحَهم، مثلما يجيء «كسورُ» المتعلمين - وفيهم من يحمل درجة الأستاذية - ليحاكموا تأريخنا ورجالَه باجتزاء عباراتٍ بَلَغتهم عبر وسائطهم وهواتفهم ولينطلقوا منها نحو نقد الشخوص والنصوص بما يسند مواقفهم، وبجانبهم من يعنيه السبق في نشر المعلومة قبل التثبت فيرمون كلامًا كيفمائيًا يُجرِّم هذا ويُخطئ ذاك، ويلحقهم المحللون المتوفزون لربط القضايا وإصدار الرؤى واقتراح التوصيات وربما أثَّروا في توجيه القرارات.
** آن للخطابات الدينية والتعليمية والإعلامية والسياسية والاقتصادية أن تعيَ دور العقل وطبيعة المتغيرات وتسندَ مواجهة الأمطار المعلوماتية بما يتواءم مع سرعتها وزيف بعضها ونقص كثير منها فتُكمله باحترافية تلائمه وليس بالنفي المجرد أو الهجوم المضاد، مثلما آن لكل ذي لبٍ أن يعرف القائل قبل القول والناقل قبل النقل والحقيقة من مظانها لا من ظانِّيها.
** الزمن لن يأذن بالحجب أو التنقيح والتهذيب أو الرقابة فلنأذن لأفهامنا أن تتحرر من الوصاية التي يحاول فرضها متطرفو الأدلجات وطائفيو المذاهب ومرضى النفوس وسطحيُّو الدروس.
** الاختلاقُ اختراق.