أ. د. فوزية البكر
لم يكن لأحد أن يتوقع أن يقدم ابن على قتل والديه في هذا الشهر العظيم الذي تهدأ به الأنفس ويركض الناس جماعات وفرادى لمساعدة المحتاج والفقير وفك شدة المعسر، هذا مع الغرباء فما بالنا مع أقرب الناس: الوالدين؟ كيف يقتل الأبناء آباءهم؟ والداتهم؟..
أمر غير معقول ولا يستطيع العقل الجمعي لهذه الأمة المباركة أن يدركه!.. إذن لنبقى على يقيننا بأن هذه الحادثة الشنيعة هي حادثة فردية بامتياز ولنبدأ في البحث والتقصي حتى نفهم؟.. بالطبع لم يستيقظ هذان التوأمان صبيحة الجمعة ليتخذا فجأة قرارهما البشع؟.. لا بد أن هناك مسببات كثيرة أودت بهم إلى الضلال.. وربما وبسبب بشاعة ما حدث لم تتبن داعش العملية رغم أن بيان وزارة الداخلية أوضح أن المراهقين التوأمين اللذين لم يتجاوزا الثامنة عشرة يتبنيان الفكر الداعشي وهو ما دفعهما إلى قتل والدتهما التي منعتهما من السفر إلى سورية وطالبت الأب بالتبليغ عنهما؟
لكن ليس الفكر الداعشي هو السبب فقط.. هناك أمور كثيرة تجري داخل جدران بيوتنا ذات الأسوار العالية التي نجحت فترة الصحوة في إعلائها حتى أصبحت قلاعاً وسجوناً لا ترى الشمس والنور بدعوى الستر والمحافظة على محارمنا، فماذا كسبنا؟.. انعزل الناس في بيوتهم الإسمنتية وانغلق الناس عن جيرانهم وعن أقربائهم ولم يعد أفراد العائلة يعرفون بعضهم بحجة العزل والفصل الكامل للجنسين وتلاشت تدريجياً قيم الرحمة والتعاطف والصداقة البريئة ليحل محلها التشدد والتخوين والتكفير لأبسط الأمور وأصبح كل فرد مطارد بهواجس القبول المجتمعي المبنية على ظواهر سطحية لا تتجاوز تقصير الثوب وتطويل اللحية لكن لا علم ظاهر ولا باطن صادق ولا فضائل عقلية أو علمية وأصبحت القيم المقدرة هي التظاهر بالتدين حتى لو لم يكن واقعاً عقلياً ونفسياً حقيقياً.
تم تحويل المؤسسات الاجتماعية الرئيسية في حياة الصغار وهي البيت والمدرسة والمسجد إلى خلايا حزبية يقدس فيها التلقين والطاعة فقط ولا يسمح بالتساؤل أو بالخطاء مما ولّد شخصيات عصابية تميل إلى التدمير: تدمير ذواتها ومن حولها بغية الخلاص ولا شك ان التوأمين كانا ضحايا هذه المرحلة.
أمر آخر له علاقة بالواقع الذكوري المتسيد في مجتمعنا.. مهلاً قرائي الكرام: لن أتحدث عن صراع المرأة والرجل، لا هذا ليس المقام الآن ونحن في الهم سواء. لا رجل ولا امرأة في مجتمعنا اليوم لا يقوم وينام وهو يفكر بهذه الحادثة البشعة ويتساءل حول دوافعها الغامضة.
لكن سؤالي لكم:كيف نربي الولد في هذا المجتمع؟ انتبهوا للحالة من حولكم ولا حظوا كيف أن الولد ومنذ يبلغ الثانية عشر وهو ينعزل تدريجياً بحكم الواقع الاجتماعي الذي يفصل المرأة عن الرجل فلا تتمكن الأم وهي التي تتابع الابناء في الغالب: لكنها في مجتمع مثل مجتمعنا تعزل تماماً عن أصدقاء الولد الذكر وكلما كبر كبرت هذه العزلة وأتحدى أي أم أن تعرف أمهات أصدقاء أبنائهن أو تلفوناتهم جميعاً أو حتي تستطيع التعرف على ملامحهم؟ هل هناك أكثر من هذا الجنون الذي نعيشه؟.. أن لا تكون لنا ذكريات مشتركة مع أصدقاء أبنائنا وهم في أعمار أبنائنا. قارن ذلك بحالة الابنة الأنثى: الأمر مختلف كلية فهي مع أمها دائماً تخرج وتذهب وتتسوق وتبدأ الذكريات المشتركة والصداقات وحركة البنت مقيدة حين تريد الذهاب إلى مكان ما فلابد من ألف سؤال ومن سيوصلها وهل ستذهب مع الخادمة ومتي ستعود ومن يرجعها... إلخ؟.. أما الشاب فمنذ الرابعة عشرة وهو طليق يسرح ويمرح ويمكنه الجلوس بالساعات سواء في غرفته مع كمبيوتره أو جواله أو مع أصدقائه في إحدى الاستراحات لكن هل معه أحد؟.. هل نعرف ماذا يجري؟.. أتحداكم جميعاً ان تعطوني إجابات دقيقة تخص دقائق حياة أبنائكم الذكور؟.. من هنا يأتي الخطر المحدق وهذا كله مخلوط بنتاج عدد من ساعات اللعب اللامحدودة على ألعاب الكمبيوتر والتي تؤدي تدريجياً إلى أن يختلط الخيال مع الحقيقية بما يجعل حتى أعنف مظاهر التدمير بالنسبة لهم مجرد لعبة كمبيوتر ومن يدري فهؤلاء المراهقين المسكينين الذين قتلا والدتهما ربما يكونون مجرد ضحايا وقرابين فترة صحوة التشدد والتجاهل والتخويف من الذنوب التي غمرت عالمنا السعودي في الثلاثين سنة الأخيرة مغموساً بفكر تدميري داعشي تسلل لهم أيضاً عبر وسائل التواصل وبساعات لا محدودة من اللعب العنيف على الكمبيوتر وهاهم يختارون الخلاص بطريقتهم الفريدة جداً..؟.
أقول لكم: لنصحو معاً على صرخة أمهات أخريات ومن نوع آخر مختلف: سأقول هذا هنا لأذكركم بأن هناك أمهات أخريات ربما يقتلن أيضاً ولكن هذه المرة ليس بسبب الفكر التكفيري بل بسبب رفضهن إعطاء المال لأبنائهن الذكور لشراء المخدرات. أتمنى أن لا نسمع عن ذلك قريباً.. اللهم احفظنا جميعاً بحفظك.