محمد أبا الخيل
في العام 656هـ سقطت بغداد تحت الحكم المغولي الغازي وأحرقت قصورها ودمرت حدائقها وأغرق في نهر دجلة كنوز من المعارف والأداب كانت تزخر بها مكتباتها، ومنذ ذلك الحين يقال إن بلادنا العربية دخلت في عصر من الانحطاط دام قرون حتى عهد محمد علي في مصر، حيث بدأ نهضة علمية جديدة. والواقع أن عصر الانحطاط السياسي العربي بدأ بدخول البويهيين بغداد وعزل الخليفة المستكفي بالله عام (334 هـ) بعدها أصبح الخليفة ينصب ويعزل بإرادة سلطان بغداد وجنده وتجزأت الدولة العباسية إلى دويلات ودول تتصارع فيما بينها وتستقطب العلماء في الرياضيات والكيمياء والفيزياء لتحقيق تفوق في تسليح جندها وصناعة آلتها الحربية، فكثر الاشتغال بهذه العلوم وبات السلاطين يمنحون جوائز وخلع على البارزين في تلك العلوم وعلوم الطب والصيدلة، حيث انتشرت دور العلاج والطبابة في معظم البلاد الإسلامية، هذا الأمر شغل الناس عن طلب العلوم الدينية وأصبح الفقهاء أقل شهرة وجاذبية للناس، حتى ظهر الشيخ عبدالقادر الجيلاني وأبو حامد الغزالي والإمام البغوي، فشدوا الناس من جديد لحلاقاتهم، الجيلاني بصوفيته والغزالي بأشعريته والبغوي بسلفيته، فقويت شوكة الفقهاء وجعلوا يحذرون الناس من هرطقات وسحرية المشتغلين بالرياضيات والكيمياء والفيزياء وزندقوا كل من اشتغل بالفلسفة وبالغ بعض السلاطين في تقريب الفقهاء وطرد غيرهم من مجالسهم تقرباً بهم لسواد الناس، حتى أصبح بعض الفقهاء في بعض البلدان يتصيد المشتغلين بتلك العلوم ليعاقبهم السلطان أو الوالي وهكذا دخلت بلاد المسلمين في عصر الانحطاط الثقافي والمعرفي في منصف القرن الخامس الهجري.
تظافرت ثلاثة عناصر لتدخل بلاد المسلمين وخصوصاً البلاد العربية في ما سمي عصر انحطاط النهضة، أولها التشظي في كيان الدولة المركزية والتي كانت في بداية الانحطاط (الدولة العباسية) بحيث أصبحت سلطنات تتصارع فيما بينها وتفتك في بعضها، والعنصر الثاني هو انتشار الملل والنحل وتداخل الدين مع موروثات الشعوب التي اعتنقت الإسلام في عصر الفتوحات، فلما صار الأمر في يدي سلاطين من أهلها برزت تلك الموروثات كمكون أساسي في عقيدتها، فرغب السلاطين نشر ذلك في مناطق نفوذهم وبالتالي أغدقوا على الفقهاء في مللهم ودعموا دعوتهم مما خلق اضطرابات فكرية وعداوات بينية وشتات بين الناس، العامل الثالث هو هجوم الفقهاء في شتى الملل والمذاهب على المشتغلين بالعلوم الطبيعية كالرياضيات والفيزياء والفلك والكيمياء واتهامهم بالزندقة والكفر والسحر والشعوذة ومطاردتهم والتضييق عليهم وقتل بعضهم أحياناً، حتى رغب الناس عن تلك العلوم وكثير منهم أحرق أو هجر ما لديه من صحف أو مخطوطات موروثة أو مقتنات، كما رغب أهل الطب عن ممارسة طبابتهم خوفاً من اتهامهم بالسحر والشعودة وهاجر كثير من علماء المسلمين في تلك العلوم وخلال فترات زمنية لاحقة إلى بلدان أوروبا المطلة على المتوسط وفتحوا هناك المدارس واستقروا ونسوا أهلهم وأصلهم.
تقول العرب في أمثالها «ما أشبه اليوم بالبارحة» فبلاد العرب اليوم في حالة نزاع سياسي فيما بينها وفي كثير منها حروب وصراع ومسيرها إلى التشظي أقرب، ومن يحكمها لا يحكمها رغبة في إصلاحها أكثر من رغبته في حلب مواردها وسيادة أهلها وقهر إرادتهم بإرادته، وفقهائها ليسوا أفضل حال من زعماء السياسة فيها فهم متناصبون العداء حول خلافات تفصيلية وثارات تاريخية ونزاعات وهمية، كل منهم يتهم أصحاب المذاهب من غير مذهبه بتهم يصل بعضها حد التكفير والزندقة، والناس بينهم في مرج وهرج حتى أصبح هناك بعض من أبناء العرب لا يرى صحة عقيدته إلا بإعلان تكفير غيره وحمل السلاح لحربه جهاداً لتكن كلمة الله هي العليا، ومن رحم الله بالخلو من هذه البلوى فقد عقد العزم وشد الرحال لبلاد الغرب إما لاجئاً أو مهاجراً وفي كلتا الحالتين، ما ذهب ليعود، ومعظم اللاجئين والمهاجرين من بني العرب لبلاد الغرب هم من ذوي العلم والمعرفة والصناعة والمهارة.
نعم ما أشبه اليوم بالبارحة ونحن نرى العرب أمام بوابة الانحطاط الثاني لنهضتهم. انحطاط في القرن الواحد والعشرين، انحطاط في زمن تنهض فيه الشعوب والأمم وتتسارع لتتنافس أيها أفضل إنجازا ونهضة ونحن العرب لا زلنا نردد «ولتكونوا خير أمة أخرجت للناس» دون أن نفعل ما يجعلنا كذلك وربما أننا لم نستوعب بعد نص الآية {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. أتمنى أن يكون كلامي هو مجرد أوهام فقط.