د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«الدين يشبع حاجات الإنسان الروحية، والطوائف والجماعات الدينية تستغل هذه الحاجات»، هكذا وصف ستيفين حسن، أحد أهم مختصي فكر الجماعات المتطرفة حال التطرف الديني، والجماعات المتطرفة ليست حصراً على الإسلام بل توجد في كافة الديانات بلا استثناء وعانت منها بأساليب متشابهة الشعوب كافة، وسبق وانتحرت في انديانا جونز في أمريكا جماعة دينية كاملة تعد بالآلاف، وهاجمت جماعات متطرفة يابانية محطات قطارات بالغازات السامة. وقد نعتبر الجماعات الإسلامية الإرهابية تطورا حديثا في الثقافة الإسلامية، ولا نجزم إذا ما كانت هذه الجماعات قد استفادت بعد احتكاكها بأجهزة المخابرات العالمية من أساليب تجنيد الأفراد والسيطرة عليهم التي أصبحت ممارسة شائعة معروفة. وهي توظف ما تصوره إهانات توجه للأمة الإسلامية خير توظيف في ذلك.
ويعد العالم النفسي «جيمس قيليقن» من أهم الخبراء في مجال دراسات العنف حيث أفنى جل حياته في دراسة أرباب الجرائم الوحشية في أعتى السجون الأمريكية، والكندية، وخلص قيليقن إلى تحديد بعض السمات الأساسية التي تميز عقلية ونفسية مرتكبي الجرائم الوحشية البشعة، وهي صفات يراها تنطبق على كافة الثقافات وربما هي صفات كونية. وذكر في إحدى محاضراته: أنه عنما سمع عن التفجيرات الانتحارية الإرهابية للجماعات الإسلامية، قال لنفسه، هذا سمعته من قبل ممن ارتكبوا أعمال قتل جماعيا لأناس أبرياء بشكل مشابه.
ويرى قيليقن أن ممارسي العنف المجاني يعانون معظمهم من «موت داخلي» يجعلهم عديمي الإحساس بأجسادهم هم ناهيك عن ألم الآخرين، حتى إن بعضهم يقطع يده أحيانًا ليتأكد أن جسده حي. فكياناتهم الذاتية قد تعرضت لنزيف داخلي مستمر نتيجة للإحساس الدائم بالعار والخجل والإهانة، فيما اصطلح علماء النفس على تسميته narcissistic injuries، أي الجروح الغائرة في الذات. وتسبب هذه الجروح للفرد ألما نفسيا يفوق بمراحل الألم الجسدي، وهنا نفهم مبدأ التضحية بالجسد للتعويض النفسي. وغالباً ما تكون التضحية بالجسد بشكل استعراضي يحدث أكبر قدر من الضجيج ولو كلف ذلك أرواح كثير من الآخرين للفت النظر للذات، ويفضي الموت الذاتي الكامل لاختفاء أي إحساس بالعاطفة والحب، أو تخيل آلام الآخرين، ولذا يمارس صاحبه العنف ضدهم بلا شفقة.
وتنطبق هذه الصفات على الانتحاريين في حالتنا، حيث يريد المنتحر استعادة ذاته بشهادة مزعومة يتخيلها المنتحر مجداً يستعيد به ذاته وتوازنه حتى ولو فقد جسده، ودونما اعتبار لمن يموت جراء فعله، ويمكن تجنيد جماعات بأكملها إذا ما تعرضت لعار وخجل تاريخي مشابه، ولذا فالعنف الشيعي انتشر كالنار في الهشيم بين الجماعات التي كانت تحس بأنها تعرضت لعار وتهميش تاريخي سواء في قرى البصرة، أو جنوب لبنان، أو غيرها من أماكن التجييش الطائفي. وهذا يفسر أيضاً لجوء شباب ضواحي بروكسيل، وباريس، ولندن، للعنف كملاذ أخير للخروج من التمييز والإهانة المستمرة التي يعانونها من محيطهم الاجتماعي.
وتحاول الجماعات الإرهابية الوصول لمن لديهم استعداد مبكر للعنف في المدارس، والجامعات، والأحياء الفقيرة حيث يتعرض بعضهم لسوء معاملة أو ابتزاز أو اغتصاب أو إهانات مبكرة كبرت معهم في ذواتهم على شكل جروح غائرة ولم تحصل لهم فرص للتغلب عليها أو تعويضها بإثبات ذواتهم بطرق غير عنيفة. فالشباب يلتحقون بهذه الجماعات بدايةً كمحاولة للتعويض الذاتي، لأن معظم هذه الجماعات تدعي إصلاح خلل كبير في المجتمع الذي تسبب في فقدان الشاب لذاته. وفي حالاتنا تدعي الجماعات السعي للقضاء على الفساد وإعادة المجتمع إلى عقود النقاء والصفاء التام. وعادة تحدد الجماعة للشاب قدوة تاريخية يقتدي بها، وقدوة قيادية حاضرة يمتثل لها، يصدقها في كل ما تقول دونما سؤال، ويطيعها طاعة عمياء. ومعروف لدينا في مجتمعنا أن مظاهر التدين تضفي الاحترام على صاحبها، ويلجأ لها بعض أصحاب السوابق لأنها تنسي المجتمع ماضيهم وتظهرهم بذوات جديدة.
والمرحلة الأخطر هي عندما تسيطر الجماعة على عقل الشاب وتعزله المجتمع وعن مصادر المعرفة الأخرى وتصبح مصدر معلوماته الوحيد. ثم تكرس التفكير الثنائي العدائي في عقله، جماعته صالحة مقدسة وغيرها فاسدة يستحق الموت. ويعمق الانتماء للجماعة عقد العار والخجل لدى الشباب الأضعف من المجتمع «الجاهلي» الذي كان ينتمي له سابقاً، فتحصل الجماعة على انتحاري جاهز فاقد الذات مليء بالحقد ويريد الخلاص والتعويض، وبدلاً من أن يخرج الشاب للشارع مباشرة ليقتل الناس، توجهه الجماعة حيثما تريد. وبعض من لا يستطيع تحمل الأذى النفسي الكبير لفقدان ذاته قد ينتقم ممن هم قريبون منه، وهو لا يحس بما يفعل لأنه قد فقد عاطفته تمامًا ومعها القدرة على تخيل مدى بشاعة جريمته.