إننا لا نعرف القيمة الحقيقية للحظات العمر إلى أن يغيب في أعماق الذاكرة.
- (جورج دوميل)
لا ذكريات جديرة بالتذكر إن لم تشارك في صنعها الأمهات، ودونهن تغدو ضبابية ومشوهة، ذكريات تتبرأ منها الذاكرة وتخزنها بعيدًا في أعماق التلاشي، لكأنها تمحوها. وسعداء ومحظوظون أولئك الذين وهبهم الله في رمضاناتهم أمهات، صنعن معهن ولهن ذكريات، رسخها الخلود.
ولأن رمضان شهر للذكرى فإنني أتذكر أننا كنا صغارًا جدًّا على الصيام، لا كهرباء، ولا تكييف.. والحياة في حدها الأقصى من العوز، غير أننا كنا نحاول من خلال الصوم ممارسة طقس الرجولة لا الإيمان.. كنا نحاول الصيام تقليدًا للكبار واستعجالاً لعبور بوابتهم التي كنا نظن أنها تجعلنا مختلفين، ويباح لنا الكثير من المتعذر.. كنا نستعجل أن نكبر..
وكانت أمي - يرحمها الله - تحاول منعنا من الصيام. والذين جربوا عبادة الصيام قبل أربعين وخمسين عامًا يعرفون ما الذي يعني ذلك. كانت الوالدة - يرحمها الله - ترى أننا ما زلنا صغارًا جدًّا على هذه المشقة، ودون سن التكليف؛ ولذلك كانت تتعمد عدم إيقاظنا للسحور. والناس اعتادت النوم في ليل رمضان، والقيام للسحور، ثم صلاة الفجر وطرق أبواب الحياة.
كنا نحاول السهر فيُسقطنا النوم، وعندما نستجديها أن توقظنا للتسحر كانت مفردة السحور توحي لنا بشيء غامض ومختلف يتحدث عنه الكبار، رغم أنه لم يكن في الغالب أكثر من ثريد الخبز مع الحليب. ــ صحينا الله يخليك نبغى نتسحر معكم
ــ تبغوا تصوموا؟ لا
ــ والله ما نصوم بس نتسحر
وبقلب الأم وحنانها كانت توقظنا، وكانت تنتزعنا من النوم انتزاعًا، ومن السرير إلى صحن الثريد المشترك لكل العائلة، ثم العودة للنوم.
والذكرى هنا ليس السحور ولا الأكل، الذكرى هي أننا كنا ننكر في الصباح أننا تسحرنا، وكنا نقسم أيضًا؛ لأننا كنا نأكل ونحن في برزخ بين النوم واليقظة، ودون أن ندرك. كنا نتذكر فقط عندما تلسعنا حرارة الأكل كما نتذكر الآن كل شيء بعد أن لسعنا سعير الحياة.
وتوسعت ذكريات رمضان بعد أن توسعت بنا مسارات الحياة، وتنوعت الرمضانات، رمضان الاغتراب والفقد.. رمضان الطائرات والمطارات، ورمضان البلاد الغريبة والأصدقاء الذين يجتمعون هناك، يقتسمون الشجن والحنين وكل ما نحاول صنعه من المتعذر.. كنا نخلق طقسنا ومائدتنا وقهوتنا التي تغدو هي القاسم في كل غياب. والآن، وبعد كل ذلك البون من الزمن، وعندما توحدنا اليوم موائد الوفرة والحيرة فيِمَ نتناول، وما الذي دخل دائرة المنهي عنه من الأكل، نتذكر تلك الرمضانات الغائبة، رمضانات حنان الأمهات والطفولة التي تسربت منا سريعًا كأنها ساعة من الرمل.
- عمرو العامري