قد يُظن بأن للحاسب الآلي ودوره في معالجة اللغة العربية منبعًا غربياً بحتًا كون تقنيات الحاسب قد تطورت واتسعت في التصميم والبناء والتحديث في الغرب، ومن منطلق هذا الظن، يُرى الوقوف على دور العقل العربي في التأسيس والتطوير، ودوره في إدخال العربية في أوساط المعالجة اللغوية العالمية، وخصوصاً في شركات تقنيات الحاسب وبرمجتها. وبما أن الحاسب رقميٌ في الأساس، ويعالج المسائل المحوسبة بتلك الأرقام وبسلسلة من الخوارزمية والرياضية، فإن معالجة اللغات والاهتمام بتطويعها في العقل الآلي الحاسوبي يعدان إحدى تلك المسائل، ومعالجةَ اللغة البشرية مربوطةٌ بماهيات الرموز اللغوية وأنظمتها. واللغة في التعقيدات التركيبية مثل الرياضيات في التعقيدات الترميزية. وقد يسأل سائل فيقول: هل الحاسب الآلي المصنوع في الغرب والمطوّر في الغرب ببرمجياته وبرامجه وتطبيقاته وعتاده قد جاءنا جاهزًا للعربية بذلك الصنع؟ إن الجواب بـ (نعم) لا يعد دقيقاً، والجواب بـ (لا) لا يعد دقيقاً أيضاً.
ومن حسن الأدبيات ذكرُ أصول الجهود العربية التي فَتحت آفاقًا للعربية في نطاق الحاسوب والحوسبة، التي انطلقت من شركة صخر المشهورة، ومن ثمت من أفراد وجهات عربية لها دور كبير في جعل العربية جزءًا لا يتجزأ من الحسبان العام للغات العالمية المحوسبة إما ببرمجة أو ببرامج أو بتطبيقات أو بتقنيات معلوماتية واتصالية. وحري بأن يُدرَك بأنه لولا دور العقول العربية في البيئات الغربية على وجه الخصوص، لكانت مسائل الحوسبة اللغوية العربية، وأحوال العربية كذلك، اليوم متأخرةً. والسؤال العمومي هنا هو: هل الحوسبة العالمية الداعمة للعربية فيما إن كانت خالية من العقل العربي المدرك لغتَه ستكون مستوعَبة لواقع العربية من حيث الفهم والتطويع الآلي؟ الإجابة على هذا السؤال لن تكون بنعم مطلقاً، لكنها تكون - دون أدنى شك-بـ «لا» على كثير من الوقائع.
فمن منطلقات الجهود العربية في الحوسبة، دخلت المجتمعات إلى عوالم الاقتصاديات المعرفية عن طريق الاستعمال الحاسوبي، وهذا منطلق طبيعي منذ بداية ثورة عصر المعلومات. وأول الجهود العربية المسطر عن هذه العوالم ما كتبه نبيل علي في خمسة كتب سردية في تقديم وبلورة مداخل تلك العوالم (انظر نبيل علي 1988، 1994، 2001، 2005، 2009).
وبما أن الحاسب الآلي -كما هو معلوم - يتكون من العتاد hardware والبرمجة software، ففي سياقهما جهود عربية مهّدت الطريق إلى دخول العربية إلى تلك العوالم. فمن عنصر لوحة المفاتيح، يعود إبداع صفيفة الحروف العربية في لوحة المفاتيح إلى الفنان السوري سليم شهابي حداد وذلك في عام 1899م، وقد كان ذلك في آلة الطباعة اليدوية القديمة. وفي بداية عصر العولمة، أعملت شركة صخر هذه الصفيفة مع اختلاف نسبي، وبما أن لوحة مفاتيح الحروف مصفوفة على ثلاثة خطوط (خط الارتكاز وخط واحد من أعلاه ومن أسفله)، فإن خط الارتكاز بالتراتبية الحرفية العربية (ك م ن ت ا ل ب ي س ش) قد أبقته شركة صخر على حاله، وبقيت على ذلك أشكال العتاد اللوحي المبرمج من قبل كل من شركة آي بي إم IBM وشركة ماكنتوش MACINTOSH، وكذلك الحال مع الخط الذي فوق خط الارتكاز، وبصفيفة حروفه الآتية: (ج ح خ هـ ع غ ف ق ث ص ض) التي أبدعها سليم شهابي حداد، إلا أن شركتي آي بي إم وماكنتوش قد أضافت حرفا قبل الجيم، والشركة الأولى قد أهملت حرف الذال وجعلته في آخر مفتاح على لوحة المفاتيح من الجهة اليسرى، الأمر الذي صعّب من عملية النسخ الطباعي غير البصري. أما الخط الذي في أسفل خط الارتكاز، فقد تباينت كل شركة من هذه الشركات في توزيع الحروف العربية المتبقية.
ولمشاريع المصادر العربية المفتوحة على الصعيد الحوسبي أو البرمجي دور كبير في توفير الأنظمة المفتوحة التي تقدم برامج داعمة للعربية أو لحوسبة العربية من حيث معجمها أو نحوها أو الترجمة منها وإليها، وانطلقت هذه الفكرة بشكل فعّال في عام 2001م، وعُرفت باسم عيون العرب Arabeyes، وهو مشروع عربي يهدف إلى دعم اللغة العربية في منصات المصادر المفتوحة والمجانية في كل ما يتعلق بقضايا الخطوط وقراءة النصوص في الملفات والواجهات العربية، كما يوفر للعالم العربي بيئة تفاعلية مفتوحة عبر موقعها في كل ما يتعلق بحوسبة اللغة العربية والبرمجيات. كما أسهمت في بناء مشاريع حوسبية عديدة متعلقة بالترجمة والقواميس، ومشاريع تطوير حققت إنشاء برامج مفتوحة المصدر لدعم العربية وبخاصة القرآن الكريم، والتطبيقات الإسلامية، والمدقق النحوي العربي، وبدأ التعويل على المصادر المفتوحة لخدمة العربية عند كل من جنو لينيكس المصرية، ومجتمع موزيلا العربي، ومجموعة مستخدمي لينكس بالأردن والكويت.
- د. سلطان المجيول