البراءة في هذه الوثيقة بالذات ليست من أجل الأبناء او الأحفاد أو الأجيال، إنما تبرئة المحتل من مجازره اليومية، وإذا كان المقصود فعلاً هو حماية (الأجيال) من جريرة ما فعله أجدادهم، فيجب أن تكون العبارة - من مصدر كالفاتيكان – (ألا يجوز محاسبة الأجيال على الجريمة الدينية والتاريخية التي ارتكبها (سلاطين اليهود) بحق المسيحية كديانة والبشرية جمعاء، عندما صلبوا الحق ودعوا الى الباطل، ولا يجوز لأي مخلوق أن يضطهد خلق الله باسم الدين).
العبارة المذكورة لا تبرئ اليهود من دم المسيح كما يبدو بالشكل، إنما تبرئ (الصهيونية) من الدم الفلسطيني والعربي والعالمي، وتمنحها الحق في استلام السوط الكاثوليكي ليكون صهيونياً إرهابياً مجرماً ومسلطاً على ألأمة العربية أولا وعلى رقاب البشرية كلها كما جرى لاحقاً.
صدور الوثيقة في عام 1963 لم يكن اعتباطيا أبدا حيث استطاع حزب البعث الذي تأسس عام 1947، والذي وضع نصب عينيه مواجهة الصهيونية وتوحيد الوطن العربي، استلام السلطة السياسية في سوريا والعراق، وهو يؤكد أن لا خلاص للأمة العربية إلا بالقضاء على الصهيونية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا يمنح الفاتيكان (بركته) لألد أعدائه وقد اعتمد الرأسمال عليه للقيام بوظيفة الشرطي الديني لمكافحة الثورة؟
الجواب ببساطة تاريخية هو ما قاله ستالين: هل يملك الفاتيكان دبابة؟
السوط الديني لا يمكنه أن يكون فاعلاً بدون قوّة عسكرية، والفاشية الرأسمالية فشلت في القضاء على العملية الثورية العالمية عسكرياً، ثم استخدمت الفاتيكان كسوط لاهوتي وفشلت في الحدّ من النهوض الثوري، إذن لا بدّ من قوّة (مقدسة) او اتحاد الإرهاب باللاهوت، تارة تحت شعار (تسامح) وتارة (نسيان الأحقاد) وتارة (ديمقراطية) وهلم جراً.
الاتحاد بين الإرهاب واللاهوت لم يحققه الرأسمال بين يوم وليلة، فهو أنشأ الحركة الصهيونية ودعمها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ثم أسس للكيان الاسرائيلي بوعد بلفور في عام 1917، ثم سلًم فلسطين تسليماً للمافيا الصهيونية في عام 1948، بموافقة - ليس واضحاً إنْ كانت غبية او تآمرية - من ستالين، ثم صنع لها رابع أقوى جيش في العالم، بحجة أن هذا (شعب) تائه ومسكين ولا بأس أن يذبح الشعب الفلسطيني بالذات وليس شعباً آخر ليعيش!
كان هتلر حاقداً على الحركة الصهيونية لأنها تقدّم نفسها البديل الأجدر بخدمة المافيا الرأسمالية قياساً بالفاشية، وقد اصطفّت الصهيونية الى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضده، وأثبتت الوقائع فيما بعد أن هتلر قد وعى الدور المناط بالصهيونية، وهو إسقاط الاتحاد السوفيتي والعملية الثورية التي تأججت في أوروبا والعالم، وهو نفس الهدف المناط بهتلر وموسوليني ومن معهم، وأن الصهيونية تمتلك ليس القوّة وحسب، إنما سوط اللاهوت الذي لا يمتلكه هتلر، وبالتالي فالصهيونية أجدر منه بتحقيق الهدف.
هذا المشهد يقودنا الى سؤال هل المحرقة المزعومة (الهولوكوست) كانت موجهة ضد اليهود أم ضد الصهاينة؟
الفاشية بالأساس موجهة ضد العملية الثورية في أوروبا التي نتج عنها نشوء دولة اشتراكية، أما إعادة توزيع الحصص الاستعمارية فهو هدف اضافي يخص من ستكون له حصّة الأسد في المستعمرات وخاصّة الشرق الأوسط.
وبالرغم من أن الفاشية اعتبرت كل من يناهض الرأسمال في اوروبا خائناً (لقوميته)، وقضت على الأحزاب اليسارية بتهمة الإلحاد او (العلمانية)، ولكنها لم تستطع القضاء على الاتحاد السوفييتي ولا العملية الثورية في اوروبا، وبالتالي يتوجب عليها حسب النواميس المافيويّة تسليم (الراية) لمن هو أجدر او (أقذر) منها.
المحرقة إذن كانت بالدرجة الأولى موجهة لمن رفض من اليهود الاشتراك في الجريمة، وذلك من اجل (تهجيره قسراً) لينخرط في المؤامرة الرأسمالية رغما عن أنفه، ولذلك جعلت منها الرأسمالية (أكبر مأساة) انسانية في تاريخ البشرية، وتستوجب اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وتاريخه وحضارته لحل مشكلة (اليهود المساكين).
لم تقتصر الحركة الصهيونية على اليهود، بل فرخت صهيونية مسيحية متمثلة بـ(تحول الفاتيكان وأتباعه بعد عام 1965 وتوقيع الوثيقة المشئومة)، وصهيونية إسلامية متمثلة بـ(القاعدة ومشتقاتها) وصهيونية لا دينية متمثلة بـ(الليبراليين الجدد) في امريكا واتباعها، كما ستفرخ مستقبلاً ربما صهيونية بوذية وأخرى هندوسية وثالثة عربية ورابعة كردية وخامسة تركية وسادسة اوكرانية ...الخ.
الصهيونية التى ساهم الفاتيكان بتثبيت شرعيتها وتنمية قوتها، أصبحت رغم أنف الأديان كلها الأداة الأقوى بيد الرأسمال لمنع التغيير، وب التالي فهي تهدد شعوب العالم كافة وليس العرب وحدهم، وليس من مصلحة الرأسمال حل القضية الفلسطينية حتى لو لم يكن الحل عادلاً، لأنه في هذه الحالة سيفقد ليس فلسطين وحسب، بل العالم أجمع وهذا هو الموت بعينه، فهل يستطيع إدخال الفيل في خرم إبرة؟ أي هل يستطيع الاحتماء بالصهيونيات المبتكرة الى الأبد؟
- د. عادل العلي