يمتاز شعر الشاعر السعودي خالد الغامدي بتوليفة ذات نكهة خاصّة، تعتمد على أنسنة المشاعر, والجمادات، فهو لا يتعامل مع رموز الحياة بمادياتها، بل ينفث فيها الروح؛ لترسم لوحة متحركة حيّة، مكتنزة بالحياة، والمشاهد.
من يقرأ للشاعر سيتعرف على مفرداته التي تحس، وتشعر؛ وتبكي أيضًا، مما يوحي بقربه منها ومن تراكيبه، وصوره، فثمة علاقة حميمية بينه، وبين معطيات الحياة من حوله، وكأنه يتمثّل قول حسن ناظم: «إن تضمين الشعر أهدافاً تتموقع خارج العالم الداخلي للشعر ومكوناته شرط أساسي من شروط تحقيق الأنسنة في الشعر إذإن الشعر عبر ذلك يمارس تأثيره المراد في الحياة».
هذا الخيال في نظر ناظم هو سرّ امتداد الأفق الشعري فأنسنة الشعر هي الأرض الخصبة التي تترعرع فيها طاقات الشعور الخلاقة.
يقول الشاعر:
أقوم أحتضن الآفاق أطعمها
دفء الرجولة يذكو من عباءتي
هنا صورة حركيّة مُلوّنة؛ تتمثل في احتضان الشاعر لهذا الكون بأرضه وجوه.
دفء الرجولة الذي يُستشعر, ولا يُستطعم, صار طعامًا يُؤكل, ويُذاق؛ يلقمه بيده, وهو واقف يحتضن كلّ هذا الكون.
وكناية عن التقدير لهذه الرجولة؛ يستخدم القيام لمعنى الثبات على قول القائل:»قام عندهم الحق» إذا ثبت, ولم يبرح مكانه. هذه الرجولة الدافئة, يشتد لهيبها وتعلو,وهذا الكون
صار إنسانًا يمكن احتضانه, وإطعامه بحنو؛ فرجولة هذا الرجل المتوقد من كلّ كساء يرتديه ليست عابرة في موقف عابر, إذا ما حملنا لفظة (عباءة) هنا على قول العرب: «رجل عَبَاء» أي: ثقيل. فبحمل المعنى على التفسير يستقيم السياق أيضًا, فهذا الكون بأسره لم يتعامل معه الشاعر بحسه المرهف على أنّه جماد؛ لقد صار إنسانًا يستحق العناق؛ احتفاء بهذه الرجولة التي تستمد دفْاءها من صفاته الرجوليّة كالثبات, والثقل؛ فهو ليس رجلًا تستخف به الحياة وفق ما ذكر في بيته.
جاء كلّ هذا في صورة إنسانية متحركة, من خلال مشهد فيه حيوية, وحنو أمام رجولة ثابتة ثقيلة في استعارة لذيذة .
وفي قوله:
يحتويني من وراء الهم هم
وشعور مستفيض ماله اسم
لست أدري بعد ما داخلني
كلمّا خبّأت همًا فار هم
حالة من الحزن المبهم أمام الشاعر, ربما تعود في تاريخها إلى تلك الأحوال التي تلازم الأدباء في المجمل, ذلك أنّ الشعراء يحملون روحًا شفافة سهلة التأثر بما يمر بها ومن حولها.
إنّه لا يزال متشبثًا بالعبارات التي تنم عن رهافة حسّه المستشف من اختيار لفظة (يحتويني) وهو يعبر عن حالة الحزن التي تعتريه.
شاعرنا المشتت؛ يتحول إلى أداة في يدِ الهم الذي صار إنسانًا يجمعه, ويضمهُ إليه. ليس من حبّ, ولكن إمعانًا في إحزانه! فشبه الهم بالإنسان, وحذف الإنسان وجاء بشيء من لوازمه وهو هنا ( الاحتواء) من باب الاستعارة المكنية.
وفي قوله:
أنهك الأيام حب ظالم
إذ رضيت الصد لي حتى انجلى
أأغني للهوى في مأتم؟
ما احتيالي في غرام قتلا
الحب أيضاً هنا يتحول إلى إنسان ظالم في استعارة مكنية غيبت ( الإنسان) كلفظ صريح لتأكيد أنسنة هذا الحزن وأنه يتصرف وفق مشيئته حرا طليقا يفعل ما يشاء بلا رادع.
ثم يتأنسن الغرام ليصير إنسانا مات مقتولا لا حيلة لإرجاعه.
لقد توجه شاعرنا من السطح إلى العمق حين قرر أن يغوص في باطن دلالات الألفاظ, لا ظاهرها.
متعاملا مع عالمه الشعري على أنّه حياة مكتملة؛ فيها التفاعل, والتعاطي مع الموجودات دون وسيط, يفهمها , وتفهمه, ويقيم معها حوارات عاتبة, وأخرى متسائلة في تراكيب شعريّة وشعورية ترسم من الطبيعة, والحياة الصاخبة عالمه الشعري رغم هدوئه.
وعلى أنّ مجمل شعره لا يعدو كونه نفثة مصدور أعياه وجيب صدره؛ إلا أنها نفثة إنسانية متأنسنة يتنفس معها, وبها كلّ من لامسه الوجع ذاته.
- د. زكيّة بنت محمّد العتيبي
Zakyah11@gmail.com