كثيراً ما بعث في نفسي موقف القارئ المناهض للكاتب تساؤلات مثيرة ولعل ما يفسر ذلك الموقف بكثير من الإقناع هو التحليل الواقعي الذي جاء في كتاب (الأدب والارتياب) للكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو الذي تناول من خلاله بعض النصوص القديمة من التراث العربي. ومن خلالها أشار إلى موقف القارئ المعادي للكاتب.
يقول كيليطو (إذا كان الناس كلهم أعداء الكاتب. فهل الكاتب من جهته عدو الناس كافة؟ على الأقل يعرف أنه محل ريبة لمجرد أنه يكتب، فكأنه مقترف لذنب يجب التكفير عنه، ولذلك تراه يتودد إلى القراء ويفاوضهم سعياً منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم. ولا أعرف مؤلفاً اهتم بالقارئ العدو كما فعل الجاحظ، فهو يشركه في مشاريعه ويدعو له (حفظك الله…) (أكرمك الله). وفي كل لحظة يلتفت إليه ليتأكد من انتباهه ويذكي اهتمامه. إذا سلمنا بأن القارئ عدو، فالنتيجة الحتمية أن كل كاتب في وضعية شهرزاد، وكل قارئ في وضعية شهريار).
إذن فالعلاقة بين الكاتب و القارئ إن كانت علاقة عداء، فإنه عداء تتخلّله عناية ورعاية، و هي عداوة تضمر نوعاً من المحبة. ومهما كان الأمر فلا بد من الحيطة والحذر من الطرفين كليهما. وعلى أية حال فهما قد يحتلان الموقع نفسه. فكل كاتب قارئ. والكاتب يعرف، قبل غيره، الإحساس المتناقض الذي يستشعره كل قارئ مقتحم.
ويعطي كيليطو لمؤلف «البخلاء» صورة مغايرة، تظهر لنا فيها عناية الجاحظ بقارئه، بحيث» يكون من العسير الفصل بين الصوتين، أي التحقق من مصدر القول، الجاحظ أو قارئه». لا عجب إذن أن نرى الجاحظ « يتودد إلى القراء و يفاوضهم سعياً منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم».
وفي ناحية أخرى من مقدمته يلمح كيليطو إلى ذلك الصراع الذي قد يفرق أصحاب القلم الذي تناول موضوعه الجاحظ في كتاب فصل ما بين العداوة والحسد، غير أن الأهم اكتشافه هو أن القارئ في الخفاء يبحث عن الثغرات وعن نقاط الضعف بهدف التهجم على الكتاب والنيل من مؤلفه. ويرى كيليطو أن الصداقة ليست أساس العلاقة بين القارئ والكاتب، وإنما على العكس، الضغينة والكراهية والحرب. ومن ثم لا بد للكاتب أن يتذكر على الدوام أنه يخاطب متلقياً بالضرورة معارضاً ومعادياً» وينبغي لمن كتب كتاباً ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم أعداء. وقد يقال إن هذا لا يعني مؤلف كتاب (الأدب والارتياب) كيليطو وأنه يحيل ههنا إلى الجاحظ، وينسب إليه قوله في كتاب الحيوان:»ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له. ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلاً، ولا يرضى بالرأي الفطير. فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً، فإذا سكنت الطبيعة أعاد النظر فيه، فتوقف. إلا أننا لا يجب أن ننسى، كما ينبهنا كيليطو نفسه، أن «انتقاء الكلام وتنسيقه...يورّط المقتبس ويكشف ميوله وطريقة تفكيره». فكل اقتباس هو كتابة ثانية. ولا يغفل كليطيو تأويل مسألة مهمة هي أن الكاتب قد يكون عدواً لنفسه حينما يفتتن بكلامه، مستنداً إلى ما قصده الجاحظ: أن فتنة اللفظ تلقي غشاوة على بصر المؤلف وتفقده حاسة التمييز، فكما أنه يتغاضى عن صفات ولده القبيحة أو يهون من شأنها، فإنه لايرى عيوب منظومة ومنثورة. إلا أن ما يغيب عن تنبهه ويقظته هو حتماً ما يبدو جلياً واضحاً للقارئ العدو بالتحديد.
- هدى الدغفق