(وله)
أعتقد أن هذه هي المرأة الأولى التي أكتب عنها، هل كانت امرأة عابرة لا أعرف ملامحها؟ أم أنها أتت بطريقة افتراضية واستثنائية، وتركت هذا الأثر داخلي. أذكر أنها كانت تقول لي : أنتِ غيمة عابرة في صحرائي، وكنت بكل طفولة أشعر بالأسى: لماذا سأكون عابرة؟ وكأنني أودُّ أن يحيطني دفءُ ورقةُ هذه المرأة التي لا أعرف ملامحها دائمًا.
في بدايات الإنترنت، كان العالم الافتراضي أكثر غموضًا من الآن، وربما أكثر حذرًا.. كان ذلك في مطلع الألفية، حينما بدأتُ الكتابة في بعض المنتديات، وتعرفت على تلك الشاعرة التي تكتب باسمها المستعار (وله). وكانت تكتب قصائد فصحى جميلة، وتصحح لي نصوصي، وتتابع درجاتي في الثانوية.. علاقة ما تكوَّنت بيننا، فتحدثنا عدة مرات هاتفيًا، كانت تعرف اسمي، وأين أعيش، وعدد أخوتي ، ولكنني لم أكن أعرف عنها شيئًا، حتى الصوت الرقيق الذي يتسلل لي ويفاجئني متى ما شاءت، لم أكن أعرف من هي صاحبته؟ فظل اسمها المستعار متواجدًا بيننا.
أذكر قصيدتها العذبة (سيبقى السعد حرفا أبجديا) التي قالت في مطلعها:
سأنسى أن لي قلباً فتيا
وأدفن دمعتي في راحتيا
تناديني المشاعر لا أبالي
أتحسب كل من نادته حيا؟
دلفت لعزلتي أوصدت بابي
خلعت بشاشتي أبحرت فـيَّا
توجهني الهموم إلى يراعي
تحرر غضبتي قلباً سبيا
بـدا في صفحة الإسلام حرا
فكيف يعيش عصراً جاهليا؟
مع الوقت غابت هذه المرأة وقصائدها، حتى جاءتني رسالة في الفيس بوك بعد عدة سنوات، من امرأة اسمها مستورة الأحمدي، حينما قرأت أول ثلاث كلمات، عرفت أنها هي؛ لكنني تفاجأت حينما دخلت صفحتها في الفيس بوك، لأجد لها آلاف المتابعين، وأراها بكل هذا الضوء، وهذا الحضور الجميل الذي تستحقه، فكأنني أتعرف على امرأة أخرى، فحين كان الناس يتابعون شاعر المليون، لم أكن أعرف أن صديقتي الشاعرة هي من يتابعها الآخرون، وهي التي تملك كل هذا الوهج.
جاءتني عدّة رسائل لطيفة من مستورة، ولكن لسبب ما، بقيتُ بعيدة، وآثرت الحفاظ على تلك المسافة بيننا، وكأنه فاجأني هذا الانكشاف، أو كأنني كبرت، فما عدت تلك الصبية التي تحتاج رقتها، ومتابعتها حتى لتحصيلي الدراسي. وبقيت أتابعها عن بُعد، حتى ماتت مستورة رحمها الله عام 2011.. ماتت شابة في أجمل لحظات حياتها تألقًا، وهي تعد أوبريت الجنادرية، وبكيت رغم أنني لم ألتقِ بها أبدًا، لكنني أشعر أنني مدينة لها بشيءٍ كثير، شيء يصعب توضيحه وإدراكه حتى لي. حينما غابت مستورة، شعرت بالأسى، كأنها المرأة التي حينما حان حصاد زرعها المختلف ماتت.
حينما أحاول الآن أن أستجر بعض ذكرياتي معها، أشعر أن في قلبي جزءًا أثيرًا لها، أو دفتر ذكريات صغير، لكنني لا أستطيع قراءة خطّه، كأن هذه الذكريات التي امتزجت ما بين الافتراضي والواقعي شيء هلامي، يصعب تحديد ماهيته.
مع الوقت، شعرت أنني عرفت امرأتين: امرأة مشعّة ومتوهّجة بالنجاح، أيقنت بغيابها اسمها مستورة الأحمدي، وامرأة أخرى لطيفة، ذات غموض خفيف اسمها «وله»، تتسلل أحياناً بخفة إلى هاتفي، أو بريدي، وأنا أتمنَّى أنها ما زالت بخير، فمازلت أنتظر رسالة ما منها، رسالة عابرة تمطر على صحرائي.
غياب الشاعرة مستورة الأحمدي - رحمها الله - هو خسارة للساحة الشعرية، وخسارة للمرأة السعودية، التي ما فتئت مستورة تعرض في قصائدها قضاياها بخفّة ورشاقة، ولعلّ قصيدتها «طالق» من أجمل القصائد التي طرحت مشكلة شائكة عن المرأة بهذه السلاسة، فقالت فيها:
طالق إذا يخرج طموحك من الباب
أو يدخل أذني صوت زفرة غبينه
أو لو ترك دمعك أثراً بين الأهداب
أو حسن وجهك لي عقد حاجبينه
وإن صاح صوتك لي بشرهات وعتاب
وإلا بغير أذني طلبتي السكينه
وطالق إذا خطّط مزاجك لاضراب
أو قال لي مليت دور المكينه
وطالق وطالق ثم طالق إذا غاب
صمت الخضوع وقام يرفع جبينه
واحلف بطالق مرجلة بين الأصحاب
ولاخير في رجل»ن» رجع عن يمينه
واكرم بها ضيف»ن» لفا وارهب اشناب
نوماس عن جد الجهل وارثينه
من غير ود ودون رحمه ترى غاب
معنى الزواج اللي غلط فاهمينه
زوجه مصون في عقد خدمه ولانجاب
نجاح يحسب من تعدد سنينه
- د. الهنوف الدغيشم