الرياض- خاص بـ«الجزيرة»:
من محاسن الإسلام وفضله أن وضع مشروعية للعزاء وهو مواساة ذوي الميّت وتسليتهم وحثّهم على الصبر والاحتساب كذلك الدعاء للميّت والترحّم عليه والاستغفار له.
وقد جاء في فضل التعزية أحاديث وآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه عمل المسلمين.
وشرع الإسلام آدابا ينبغي أن يراعيها المعزي والمعزى، وهذه الآداب الشرعية يجب أن يتحلى بها المسلم ويتمسك بها عند التعزية، ولكن بعض من الناس لا يراعي الظروف النفسية لأهل المتوفى فتجد أحدهم يتحدث عن فريقه المفضل عند الدفن، وآخر يتناول حال الأسهم، وفي حين نجد آخرين يخططون لرحلتهم في الصيف والبلدان التي سيذهبون إليها، في حين وضعوا أماكن العزاء ملتقى لتبادل النكات وتناول أصناف الأطعمة المتنوعة.
«الجزيرة» ناقشت تلك التصرفات والسلوكيات مع عدد من ذوي الاختصاص في العلوم الشرعية.. فماذا قالوا؟!
آداب العزاء
بدايةً يقول فضيلة الشيخ الدكتور/ قيس المبارك عضو هيئة كبار العلماء أن التعزية هَدْيٌ نبويٌّ ومقصدٌ شرعي، والجلوس لاستقبال المعزِّين وسيلةٌ لتحقيق هذا المقصد، وقاعدة الفقهاء أن الوسائل لها حُكم المقاصد، وقد روَى البخاريُّ عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا مات الميِّتُ مِن أهلها، واجتمع لذلك النساء، أنها إذا تفرَّقْنَ، ولم يَبْقَ إلا أهلها وخاصَّتها، أنها تصنع تَلبينةً -وهي حساءٌ مِن نُخالة، وربما أضيف إليه عسلٌ أو لبن- فتأمُرُ بِصبِّه على الثريد، ثم تقول لهنَّ: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التلبينةُ مُجِمَّةٌ لفؤاد المريض، تَذهبُ ببعض الحزن) وروى البيهقيُّ بسند صحيح أنه حين مات خالدُ بن الوليد رضي الله عنه، اجتمع نسوةُ بني المغيرةِ يبكين عليه، فقيل لعمر: أرسل إليهنَّ فانْهَهُنَّ، فقال عمرُ: (ما عليهنَّ أنْ يُهْرِقْنَ دُموعَهنَّ على أبي سليمان، ما لم يكن نَقْعا أو لقلقة) والنَّقْعُ هو وَضْعُ التُّراب على الرأس واللَّقلَقَةُ هي الصوت، فلم يَنْهَ النساء عن الاجتماع، ولا عن البكاء، فإن الله لا يُعذِّبُ ببكاء العين، وقد قال صلوات ربي وسلامه عليه: (إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يَرحم) فالدمعةُ رحمةٌ أودعها الله في قلوب عباده، كيف وقد قال صلوات الله وسلامه عليه، وهو يودِّعُ ابْنَه إبراهيم: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضِي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيمُ لَـمَحزونون) وقد رُفع صبيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يَحتضر، ففاضت عينا رسول الله، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (هذه رحمةٌ، جعلها الله فى قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماءَ) وغاية العزاء تسلية أهل المصاب، فحين توفِّيَ والدُ جابر بن عبد الله، جعلَ يَكشف الثوب عن وجْهِ أبيه ويبكي، وجعل الناسُ ينهونه عن البكاء، قال جابرٌ: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني) وجعلتْ فاطمةُ بنتُ عَمْرو -عمَّةُ جابر- تبكي أخاها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليةً لها: (ولِمَ تبكين؟ فما زالت الملائكةُ تُظلُّه بأجنحتها حتى رُفِعَ) والأمرُ في ألفاظ التَّعزية واسعٌ، فقد أرسلَتْ ابنةُ أسامة بن زيد إلى أبيها تُخبره بموت صبيٍّ لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع إليها، فأخبِرْها أنَّ لَِّه ما أخذَ وله ما أَعطى، وكلُّ شىء عنده بأجلٍ مسمَّى، فَمُرْها فلْتصبر ولْتحتسب) وقد ذكر الفقهاء ألفاظا استحسنوها، مثل أن يقول: أعظم الله أجرك على مصيبتك وأحسن عزاءك عنها وعقباك منها، غفر الله لميتك، ومثل قول: آجركم الله في مصيبتكم وأعقبكم الله خيرا منها إنا لله وإنا إليه راجعون، إن في الله عزاءً من كل مصيبة وخلَفا من كل هالك، وعوضا من كل فائت، فبالله فَثِقُوا وإياه فارجو، فإن الـمُصابَ مَن حُرم الثواب، فالأمر على قدْر مَنطق المعزِّي وما يَحضُره مِن الكلام في ساعة التعزية، ثم إنَّ وقت التعزية كذلك واسعٌ، فيكون قبل الدفن وبعده، والأولَى عقيب الدفن، لأنه موضعٌ يَشتدُّ فيه الجزع، فتكون تسليةُ المعزَّى فيه آكد وأعظم أجرا، وينبغي أن يَخُصَّ المعزِّي مِن أهل الميِّت أضعفَهم في احتمال المصيبة، لئلا يقع منه إثمٌ بالتَّسخط من قضاء الله تعالى.
مراعاة أهل الميّت
ويضيف د. المبارك ومن آداب التعزية مراعاةُ حال أهل الميت، فإنهم في شُغلٍ عن صناعة طعام لهم، فناسب أن يعمل الناسُ لهم طعاما، قال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا لآل جعفر طعامًا فإنه قد أتاهم ما يشغلهم) غير أن الناس في هذه الأيام توسَّعوا في مجالس العزاء، فبعضهم يستأجر قاعةً أو مزرعةً ليستقبل فيها المعزِّين، وهذه مشقَّةٌ على أهل الميِّت، وفتحٌ لباب الإسراف، وخروجٌ عن آداب التعزية، والأمر أيسر من هذا، فيكفي أن يجلسوا في مجلس أحد أبناء المتوفَّى، فيدخل المعزُّون لمواساتهم، ولابأس لو جلسوا قليلا، أما أهل الميت، فإنهم بحكم طول مُكْثهم في استقبال المعزين، بحاجة إلى طعام وشراب، فلابأس أن يجتمعوا -حين يخرج الناس- على غداء أو عشاء خاص بهم، ولابأس أن يكون معهم بعض محبيهم ممن قدم من سفر وغيره، والمطلوب في التعزية ثلاثة أشياء: أحدها تسلية أهل الميِّت وحضُّهم على الصبر والرضا بالمقدور، والثاني الدعاء لأهل الميِّت بالثواب وحُسْن العقبى، والثالث الدعاء للميت والترحم عليه، وليس للجلوس للتعزية زمنٌ محدَّد، وإنما هو من قبيل الأعراف والعادات، فإن شاء أهل الميت جلسوا ساعةً من النهار، وإن رأَوا أن الأرفق بالناس أن يجلسوا يومين أو ثلاثة أيام فلا حرج في ذلك، والله أعلم.
ظاهرة عدم المبالاة
ويؤكّد الدكتور فهد بن سعد المقرن رئيس قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إن العزاء شرع لتخفيف ألم المصيبة على أهل الميت فقد قال ( من عزى مصاباً في مصيبته كان له مثل أجره) ولكن في هذه الأزمنة المتأخرة مع التغيرات الاجتماعية والانفتاح الثقافي، ظهرت مظاهر غير مناسبة في المقابر وأثناء التعزية ومن تلك المظاهر السلبية، ظاهرة عدم المبالاة بمشاعر أهل الميت ومن ذلك الخوض في أمور الدنيا عند دفن الميت، مع أن زيارة القبور إنما شرعت للتذكير بالآخرة مع سبق المنع من النبي عن زيارتها، وهذا يدل على أن القلوب ألفت الدنيا حتى صارت الدنيا شغلها الشاغل ولم تعد المواعظ ولا المقابر تؤثر فيها فضلاً عن إساءة الأدب مع أهل الميت في تلك الساعة التي هم في حاجة للوقف إلى جانبهم.
ومن تلك المظاهر جعل العزاء احتفالا يجلب فيه أطيب الطعام ويدعى له الناس وهذا مخالف لهدي النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي أمر بصنع الطعام لآل جعفر، وهم أهل الميت في كل زمان ومكان، وللأسف هذه البدعة ألفها الناس حتى صاروا ينكرون على من تركها.
ومن المظاهر السلبية ما يصحب دفن الميت من أمور مخالفة للسنة منه أمر الناس بجمع الجنائز في المقابر للصلاة عليها مع أنها صلي عليها في المسجد قبل ذلك.
كفى بالموت واعظاً
ويشير الدكتور عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة في الأحساء إلى أن ذكرى موت الأحبة مؤثر في النفس، وكفى بالموت واعظا، وكما جاء عن عمر بن عبد العزيز في قوله تعالى (حتى زرتم المقابر)، ما أرى المقابر إلى زيارة، ولا بد لمن يزورها أن يرجع إلى الجنة أو إلى النار!
ومن هنا يتأتى للمسلم في مواساة أخيه أو قريبه أو زميله أو أي أحد من الناس بالآداب الشرعية في أماكن التعزية ومجالسها العامة؛ بألا يجعل مكان التعزية مكان تبادل النكات والذكريات والطرائف والبيع والشراء ونحو ذلك؛ بل يتعدى الشأن أحيانا إلى بذاءات! لا ينبغي أن تطرح مطلقا ناهيك عن مكان التعزية، وما يكون فيه من جرح شديد لمشاعر أقارب المتوفى، ومضايقة مباشرة لآداب المجلس وأعرافها.فينبغي مراعاة الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية لذوي الميت.
كما لا يصح المبالغة في الحديث في أماكن التعزية عن أمور الدنيا وفتنها، بل يستحب مواساة أقارب المتوفى بتخفيف حزنهم على من فقدوا، وتذكيرهم بأن هذه أحوال الدنيا (عش ما شئت فإنك مفارقه).
وكما قال الشاعر:
الموت باب وكل الناس داخله
فليت شِعْرِي بعد الموت ما الدار
وأختم حديثي، بأهمية التخفيف على المعزين ومصيبتهم وتفقد حوائجهم، والدعاء لميتهم بالرحمة والمغفرة وتكفير الذنوب ومحو السيئات.