د. حسن بن فهد الهويمل
لقد استفز العمالقةُ، ومن دونهم مجتمعاتِهم، وجَيَّشوا مشاعرَهم، وألَّبوا الرأي العام على أنفسهم، وتصدى للمستفزين من لا يحسن الحوار؟
ومثل هذه التصديات تتطلب المعرفة بفقه المآلات. إذ ربما يكون التصدي للمستفز أسوأ من عقابيل المخالفة.
وتفاوت العمالقة في الإثارة، والشطح يتطلب خطابات متوازنة، تحاول الاحتواء، وتتكئ على الحجاج المعرفي، والبحث عن الحق.
المتصدون للشطح هَمُّ أكثَرِهم الإدانة، ونسف الجسور، وتصعيد لغة الصراع. وقد تكون الأطراف كلها عالة على عَفَن التراث. وكلُّ صَخَبِها غثاءٌ، لا غناءَ فيه.
لقد وضع [القَصِيْمِي] -على سبيل المثال- خُطواته الأولى في الطريق المعوج، عندما أصدر كتابه الضجة [هذه هي الأغْلال]. إذ هو بداية التحول بعد الحقبة السلفية [الراديكالية].
وكان بالإمكان احتواؤه، لو وُضِعَ مهادٌ أخَّاذ. فكتابه ينطوي على إيجابيات كثيرة، يمكن أن تكون طريقاً لصَدِّه عن غيِّه، والحيلولة دون تدهوره الفكري، الذي بلغ به حَدَّ الإلحاد، والهدم، والعناد.
ذلك مثل يَجْمع بين خطأَين:
- خطأ المؤلف الذي استفز علماء السلف. وخطأ المواجهة التي نسفت جسور التواصل.
لقد قرأت الكتاب، والردود، ووجدت أن كل الأطراف يتحملون المسؤولية. فعالِمٌ متبحر جَنَّدَ نفسه للدفاع عن السلفية، لايجوز التفريط به عند أول عثرة.
وللمتابع أن يقول مثل ذلك بحق [طه حسين]، وكتابه [الشعر الجاهلي] فقد ارتكب خطيئتين:- إحداهما لاتغتفر، وهي نفيه دخول [إبراهيم] عليه السلام [جزيرة العرب]. والثانية تَمَثُّلهُ المسرف لمناهج المستشرقين، وتبنيه لأفكارهم.
فالغرب بظواهره، ومناهجه، ومدنيته بهر طائفة من المبتعثين، وحملهم على تبني رؤية مفكريه، دون تحديد. بدأ هذا الاندفاع بـ[رفاعه الطهطاوي]، واتسع عند من جاؤوا بعده.
وأياً ما كان الأمر فإن في الحضارة الغربية إيجابيات تعد من ضوال الأمة العربية. وواجبها مبادرة الأخذ بها. وفيها ضلال لايجوز الانزلاق في أوحاله.
والعقلاء العالمون يدركون ذلك، ولا يقعون في المحذور. فالقطيعة مع الغرب، كالانقطاع المطلق له.
لقد تصدى للاستشراق نَفَرٌ لايستهان بهم من حيث الصدق، والمعرفة، وحين يتنازع العقل، والعاطفة هذه المواجهات يكون الإخفاق غالباً في ظل العواطف الجياشة، ويكون النجاح في ظل العقول العارفة.
فمزالق العمالقة متعدد الأسباب. وجماع أمرها في التعالق غير الرشيد بالمستجد الغربي، والجهل التام بالتراث. وهو جهل مخل بالأهلية المعرفية، فمن لايكون على دراية بالتراث، يكون كالجسم الذي يفقد المناعة في الأجواء الموبوءة.
سأصرف نظري عن رويبضات يجترون مسائل مهترئة من كثرة الترديد. والسابقون من العلماء فرغوا منها، وصارت من ركام الإرث المعرفي الذي لايثيره إلا المُقْوُون المغمورون، من عشاق الأضواء.
لقد مر بالمشاهد مفكرون، وعلماء، وأدباء، اجترحوا إيقاظ الفتن بمقترفاتهم الفكرية، والمعرفية.
فـ[طه حسين] على الرغم من استفزازه أضاف في كتبه التاريخية معارف، ومستخلصات، لايستهان بها، وأبان عن دراية عميقة، وتوفرت كتبه على أسلوب شيق جذاب، قد ينسي القارئ مافيها من جُنحٍ، ساير فيها المستشرقين.
فمن جُنَحِه المثيرة أسطرة السيرة النبوية في كتابه الممتع [على هامش السيرة]. وتصعيده الخلاف التاريخي في كتابه [الفتنة الكبرى].
وقدراته تتجلى في استنباط مالايخطر على البال، مستخدماً براعته في التدليس، والتوهيم. وهو أكثر إثارة في كتابه [مستقبل الثقافة في مصر].
وخصومه يبالغون في التهويل، وتضخيم الجُنَح، وبخاصة من كتبوا عن موقفه من التراث.
إنه عربي اللغة. استشراقي الفكر. علماني الرؤية. وحين نقطع بهذه السمات، نكون ملزمين بأن نقطع بغزارة علمه، وذكاء عرضه، وروعة أسلوبه، وقدرته على التمويه والمراوغة، واستيعابه للتراث، والمعاصرة.
وهو رائدٌ من رواد الأدب الحديث، ومرجعٌ لايستهان به. إلا أنه كالأرض المسبعة يحتاج قارئه إلى أخذ كافة الاحتياطات، بحيث لاتفوته الإخفاقات، ولاتهوي به الجنح في مكان سحيق.
وعندما أُنحي باللائمة على العمالقة، وأحملهم مسؤولية الإثارة، وتفكيك اللحمة الذهنية للأمة، فإنه لايعوزني الدليل.
فالتاريخ الفكري الحديث مليء بالمفاجآت المثيرة، والمربكة.
فهل أحد يجهل ما أثاره الشيخ [علي عبدالرازق] من خلافات، عندما أصدر كتابه [الإسلام وأصول الحكم].
وماأثاره [ساطع الحصري] حول [القومية العربية] من خلال منظور [أيديولوجي] لايمكن التسليم له على الإطلاق، ولا مقاطعته على الإطلاق.
ولك أن تقول فوق ذلك عن روايات [جرجي زيدان] الإسلامية، المنطلقة من وحل الجنس [الفرويدي] وعن كتابه [تاريخ التمدن الاسلامي] الذي نَحَّى فيه الجانب الحضاري، والروحي.
ولن نقف عند من [أنْسَنَ المقدس]، ومن [أسطر القصص القرآني]، ومن استبعد [أصالة الحضارة الإسلامية].
ودون ذلك ما يثار بين الحين والآخر من قضايا لاتشكل أهمية في المسار الحضاري. ولكنها تثير الرأي العام، وتحدوه إلى احتدام المشاعر، والوقوع في معرة التصنيف، والإقصاء، والاستعداء.
والمجتمع العربي موبوء بالتناحر، والتصفيات الجسدية، فضلاً عن تصفية السمعة، وهو لايحتمل مزيداً من الإثارة، والتصديع.
وحين يكون مكتظاً بالمتناقضات، فإنه لمَّا يزل مشروع إثارة، واستفزاز. والمتولون لكبر الخطيئات يتفاوتون في الخطورة، والمستويات المعرفية.
مايسوء تقحم النكرات الفارغين لمشاهد الفكر، والسياسة ببضاعة مزجاة، وعواطف جياشة. على الرغم من أن المجتمع مليء بالمشاكل القاصمة، ولا يحتمل المزيد من اجترار القضايا المفروغ منها، فضلاً عن النوازل، والمعضلات التي تتطلب العقل، والمعرفة، والتجربة، وفقه المآلات، ودرء المفاسد، المقدم على جلب المصالح.
قد نتجاوز العثرات العارضة لبعض المشهود لهم بسلامة المقاصد، وهم كثيرون، أما [المتأدلجون] والمتعالقون مع المبادئ، والمذاهب الفكرية، والسياسية المخالفة للثوابت، والمسلمات، فإن إيقاظهم للرأي العام من المقترفات التي لاتُغتفر. ولرهافة الحس، والتوجس عند الرأي العام، تراه يثور أمام [التغريدات] الفارغة من كل حِسٍّ وطني.
ونعود لنردد بكل تخوف:
- [لو ترك القطا لنام].