الوقت هو الحياة, مثلما أن الحياة هي الوقت، والأوقات إما إعمار لحياة صاحبها عاجلاً أو آجلاً أو دمار لدنياه وآخرته، ولذا فإن عمار الحياة بما ينفع حياة ثانية. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. وقال بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ), والنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ, وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ).
فمن أخطر المشكلات التي تواجه الشباب مشكلة الفراغ، قال الشاعر العربي:
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء آي مفسدة!
وقال الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم على دراهمكم ودنانيركم!. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً، لا في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة. وقال أحد الحكماء: من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه!. وقال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يَزِد فيه عملي. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.
وتأتي أهمية وقت الفراغ وأهمية استغلاله والاستفادة منه من حيث إمكانية تحقيق العديد من الحاجيات الأساسية للفرد ومن ثم الجماعة، وذلك من خلال الأنشطة التي تمارس في وقت الفراغ، إذ يتمكن الفرد من إشباع حاجاته الجسمية والاجتماعية والعلمية والعقلية والانفعالية , ولكن على من تقع هذه المسؤولية وذلك الاستغلال الأمثل لهذا الوقت الذي يتطلع المجتمع أن يتم قضاؤه فيما يفيد ويعود بالنفع, هل نكون نظريين ونلقي بالمسؤولية على الأسرة والابن دون أن يكون لمؤسسات المجتمع المدني علاقة وكذلك الدوائر الرسمية بكافة تفرعاتها والأمنية منها تأتي في المقام الأول في حفاظ الشباب على أوقات فراغهم وصدهم عما يؤذيهم جسدياً وعقلياً وحتى سلوكياً، فهم حماة الفضيلة في مجتمعنا الآمن, وهذا دون شك لا يعفي الأسرة من المسؤولية الدقيقة ولطرفيها الرئيسين الأب والأم ومتابعتهم الأبناء والبنات والقرب منهم والجلوس إليهم ومحاورتهم ومعرفة اهتماماتهم لكي يساعدوهم بحكم الخبرة في ترجمتها لهم وتعليمهم ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، لأن الإجازة لا تعني إجازة عن كل شيء، وشرعنا المطهر غني بكل ما يدفعنا للمثالية ويحقق لنا الخيرية التي اختارنا الله سبحانه وتعالى لها طالما أننا محاسبون عن أوقاتنا مثلما نحن محاسبون عن أموالنا وأعمالنا يوم اللقاء.
وفي هذا العام تحديداً سيقضي شباب وشابات وطننا الحبيب أطول إجازة مروا بها وبما يقارب الأربعة أشهر، ونجد وللأسف الشديد أن الاستعداد لها دون المأمول من قطاعات المجتمع الثلاثة (العام والخاص والأهلي) لأننا لم نطلع على برامج للتوظيف الصيفي تستوعب مئات الآلاف من الدارسين في المرحلة الثانوية والجامعية، وهذا لا شك دور مهم لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية بالاشتراك والترتيبات المسبقة الالزامية مع القطاع الخاص، والحال كذلك مع مؤسسات النفع العام, ولم نشاهد كذلك دور للجامعات الحكومية أو الأهلية في استيعاب تلك الأعداد الذين يدرسون بها وطرح برامج ثقافية ورياضية واجتماعية تجد الوقت مملوءاً بما يفيد ولو بمقابل كبرامج للغة الإنجليزية أو تطوير الذات أو حتى دورات متخصصة دون أن تكون إلزامية لمن رتب استغلال وقته بنفسه, ولم نجد من مؤسسات المجتمع المدني الاستعداد كذلك للاستفادة من اندفاع وحماس الشباب في خلق ثقافة للمسؤولية الاجتماعية وإبراز السلوك التطوعي الذي تعول عليه رؤية الدولة 2030 في زيادة المتطوعين للعمل الإنساني ورفع عددهم من 11 ألف رجل وامرأة إلى مليون، وهي فرصة ليكون العمل التطوعي في إطار مؤسسي ينطلق كل عام على شريحة مهمة وذات قوة عددية لا يستهان بها ومن خلال تلك البرامج سنخلق الإيجابية في النشء بصورة نحمد عواقبها في المستقبل, كذلك لم نجد أن القطاع الخاص ترجم مسؤوليته الاجتماعية فيما يتعلق بالشباب والنشاط الرياضي في تقديم عروض خاصة يترجم من خلالها الشباب رغبتهم للاستفادة من أوقاتهم في الرياضة وإن كنا نرى أن ثمة دوراً تشترك فيه وزارة التعليم والهيئة العامة للشباب والرياضة في تفعيل دور المؤسسات الرياضية الخاصة التي تستطيع أن تستوعب الآلاف من الطلبة في شراكة مجتمعية بين الجهات الحكومية المعنية والمؤسسات الرياضية الخاصة, كذلك لم نطلع على خطة تثقيفية لشبابنا غير ماكنا معتادين عليه من أجل حمايتهم من الشرور في الأفكار والمعتقدات، وكذلك الآفات من ويلات المخدرات ورفقاء السوء الناشطين، وهذا دور نراه على الإدارة العامة للمخدرات وكذلك لجنتها الرائدة في مشروع نبراس الذي أخذ الجهد والوقت لتنفيذ البرنامج، ونأمل أن يكون دوره أكبر مع طول الإجازة, ولم نطالع على برامج خيرية تتولاها القطاعات الثلاث (العام والخاص والأهلي) من أجل التدريب والتأهيل للشباب واستثمار طاقاتهم في توجيه من هم في المرحلة الثاوية على احتياجات سوق العمل كي يتخصصوا في الجامعة فيما ينفعهم من تخصصات مطلوبة, ولم نر دوراً يحتوى الشباب في التعليم الفني والتدريب المهني وإطلاق دورات قصيرة وتخصصية في أعمال الصيانة والتشغيل وغيرها, وأخيراً كيف تنطلق الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ببرامج مبتكرة ليست فقط للترفيه ولكن للتعليم والتأهيل والتنسيق مع الجهات ذات العلاقة لتتحقق المنفعة, أو تعميم التجارب الناجحة لبرنامج بارع والاهتمام بالحرف اليدوية لكي نخلق ثقافة العمل الحر ونقضي على وقت الفراغ بما يفيد, أو تأهيلهم في الإرشاد السياحي ومنحهم دورات بمكافأة يتبناها القطاع الخاص لنخلق فيهم المنفعة للوطن.
إن هذا الأمر يتكرر معنا بشكل سنوي وتتكرر معه المطالبة باستثماره وتتكرر كذلك الآمال في إيجابية القطاعات الثلاث ومعها تتكرر الإخفاقات أو أن التفاعل دون المأمول ولا سبيل لذلك إلا أن يطلق برنامج وطني شامل له خطة إستراتيجية وفعاليات وبرامج وترأسه وزارة العمل والتنمية الاجتماعية وتشارك فيه كل الجهات المعنية وتوضع له مؤشرات أداء تقاس من خلالها فاعلية القطاعات الثلاث وكذلك مدى الاستفادة التي تحققت، ويطلق هذا البرنامج التنموي الاجتماعي في كل مناطق ومحافظات ومراكز المملكة ويتم الاستعداد المبكر له مع تخصيص ميزانية تكفي لاستيعاب الأبناء والبنات الراغبين في الاستفادة من أوقات الفراغ فيما ينفع, مع ضرورة ضمان وصول التغذية العكسية من الأسر, ولا نظن أن مجلس الاقتصاد والتنمية بعيد عن التفكير في هذا المجال الذي أشغل الأسر وكذلك أشغل الجهات الرسمية لأن معدلات الجريمة لا شك تزداد بسبب الفراغ وانتشار الشرور في مثل تلك الأجواء، ولهذا فإن تضافر الجهود واجبة, وسيتحقق من البرنامج الوطني نتائج سنحمدها دون شك وتستطيع الجهات المعنية غرس الكثير من الإيجابيات السلوكية ورفع مستوى الولاء الوطني حتى ولو قلنا إنه متحقق مع ضرورة أن يواكب هذا البرنامج تطلعات المجتمع بكل فئاته.
ختاماً, المجتمع ليس مسؤولية الدولة لوحدها وإنما مسؤولية الجهات المختلفة فيه والقادرين من الرجال والنساء على حد سواء. وعندما ذكر نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أن خير الناس أنفعهم للناس لم يقصد بعض الأشخاص فقط وإنما يفهم منه أنه لكل القادرين على النفع, ونثق أن في الوقت متسعاً أن يعاد صياغة البرامج من جديد إن وجدت أو استحداث ما لم يكن موجوداً لكي نقدم لشباب الوطن ما يستحقه الوطن أولاً وما يستحقه شبابه وشباته لأنهم بناة حضارته القادمة التي سيستفيد منها الجميع وسندفع بتلك الهمم الوطنية أن يكون وطننا الكريم في منصة الخيرية لكل الأوطان، وهذا الواجب دون فضل لأحد على أحد، فهو أعطى الكثير ولم يطلب إلا القليل والكل رابح مع تقديم الوطن على النفس لأنه وطن الجميع.