الاطاحة بالقيصرية في اوروبا وغيرها تطلّب نهضة شعبية ترفض الظلم في الأنظمة القائمة، وهذه النهضة الشعبية كان لابد لها من نهضة فكرية وفنية وأخلاقية وأدبية مرافقة لها ومتنامية معها.
وقد أدّى عصر النهضة هذه المهمّة على أكمل وجه. ولكن أي نهوض شعبي لا يقتصر على محاربة نوع واحد من الظلم، إنما يحارب الظلم بكل أنواعه، وهذه هي الطامّة الكبرى التي يعيها المتسلط الاستغلالي، لذلك عندما يصل المتسلط مع النهضة الشعبية الى استلام السلطة، يتحول مباشرة الى جلاد يستخدم كل ما هو متاح له من سياط لإيقاف النهضة التي أطاحت بسابقه وأوصلته الى السلطة.
السلطة السياسية هي السوط الأكبر للرأسمال ولأي جلاد مهما كان نوعه، بل إنها الحاضنة التي تفرّخ كل أنواع السياط الأخرى. لذلك لا يمكن لأي سلطة أن تكون ديمقراطية، فهي بحكم طبيعتها ديكتاتورية بالضرورة.
كيف يمكن للرأسمال أن يوظف السوط الكاثوليكي لخدمته وهو يدعي العلمانية؟
لا يوجد إلا وسيلة واحدة وهي استعادة هيبة الكنيسة بمنحها أرضا وتمويلا وإعلانها دولة مستقلة، ثم توظيف هذا الكيان بطريقة خفية تحت (توجيه) الرأسمال كي يؤدي الدور المناط به، وإذا شذّ احد الباباوات يدبرون له أي مكيدة ليتخلصوا منه.
ولكن كيف يمكن لأي بابا أن يخرج عن طاعة الرأسمال ولي نعمته؟
الضغوط التي يواجهها البابا الكاثوليكي من المسيحيين في كل أصقاع الأرض ليست بدون تأثير، وخاصة القاعدة الشعبية التي تطالب البابا بالنطق بمطالبها وإلا تنحسر عنه، مما يؤدي الى اضمحلال سلطته اللاهوتية.
ولذلك من أجل أن يكون السوط الكاثوليكي ناجعاً يتوجب على البابا الحفاظ على القاعدة الشعبية من جهة، وتمرير ما تطلبه المافيا الرأسمالية من جهة أخرى، ولإتمام هذه المهمة الصعبة لا بد من دعم البابا إعلامياً ودعائياً ليصبح خليفة الله على الأرض ويكون كلامه وقراره مقدساً (وجبرياً) حتى لو خالف النصوص الدينية.
كتب د. منقذ بن محمود السقار (مكة المكرمة صفر - 1424هـ تحت عنوان هل افتدانا المسيح على الصليب - سلسلة الهدى والنور) (في مؤتمر الفاتيكان الثاني عام 1963م: انعقد المجمع لبحث موضوعات عديدة، تدور حول تقوية الوحدة المسيحية. وفي الدورة الثانية منه: قدم الألماني (الكاردينال بيا) وثيقة تعتبر الصورة التمهيدية للوثيقة التي صدرت فيما بعد، وتبرئ اليهود من دم المسيح.
وتنادي الوثيقة التمهيدية: باعتبار الشعب اليهودي جزءاً من الأمل المسيحي، وأنه لا يجوز أن ننسب الى يهود عصرنا ما ارتكب من أعمال أيام المسيح، واحتج الكاردينال لكلامه بأن كثيرين من الشعب لم يكونوا يعرفون شيئاً مما حدث، ولم يوافق بعض قادة الشعب على ما فعله سائر الكهنة. وقد عورضت الوثيقة داخل المجمع ...الخ)
يعرض الدكتور منقذ بعد ذلك الاحتجاجات العديدة من مختلف الكرادلة في العالم على تلك الوثيقة، ولكنها رغم ذلك اقرّت في عام 1965.
هذا الحدث التاريخي يسلّط الضوء باعتقادي على مهمة الفاتيكان التاريخية، فهو منذ إنشائه حتى وقتنا الحالي يتنصّل من التعاليم التي نادى بها السيد المسيح (ع) في مكافحة الظلم الاجتماعي وتحول الى سوط بيد الرأسمال موجه لتكريس الظلم عقائدياً.
الفاتيكان لا يستطيع أن يكون جلاداً بشكل مباشر لأنه لا يملك دبابة كما قال ستالين، ولكن بإمكانه أن يروج للرذيلة بدل الفضيلة، كيف ذلك؟
في المؤتمر المشار اليه من قدم الوثيقة هو كاردينال ألماني، هل كان ذلك مصادفة؟ أم أن الأمر مقصود من أجل تقديم اعتذار مبطّن للصهاينة - ولا أقول اليهود - على المحرقة المزعومة التي تعرض لها اليهود إبّان الحكم النازي الهتلري في ألمانيا؟
اذا كان مصادفة فمن المفترض أن تقدّم الوثيقة حال نشوء الفاتيكان في عام 1929 وليس في عام 1963 عندما اصبحت (شرعية إسرائيل) موضع شك عالمي، كما أن الوثيقة تتحدث عن «الشعب» اليهودي وهو مفهوم كان موضع شك عالمي أيضاً في ذلك الوقت، وتم إسكات الأصوات المعرفية التي تعتبر اليهودية ديانة كالمسيحية والإسلام ولا تخص شعباً بعينه.
التيار الصهيوني في اليهودية هو الذي يروج لمفهوم (الشعب اليهودي) ويرفضه معظم اليهود في العالم بما في ذلك اينشتين الذي دعي لرئاسة اسرائيل ورفض العرض (راجع اينشتين - الموسوعة الحرة)، كيف إذن استطاع الفاتيكان بكل كرادلته المقدسين أن يتجرأ ويسمي اليهود شعباً؟ ولماذا لم يسم المسيحيين او المسلمين او البوذيين شعوباً ايضاً؟
الوثيقة المشئومة لم تقتصر على تسمية اليهود شعباً، إنما جعلتهم جزءاً من (الأمل) المسيحي، وهذا معناه أنه لا يجوز لأي مسيحي المساس (بكرامة اليهود) وإلا سيكون مصنفاً من المعادين (للسامية).
في كل الأديان والمقاييس الأخلاقية والحقوقية والإنسانية العامة لا يجوز محاسبة الأبناء على ما فعله آباؤهم، ولكن لا يجوز ايضاً لهؤلاء الأبناء او الأحفاد أن يمارسوا أبشع أنواع الإرهاب المنظم والعشوائي ضد شعب أعزل بحجة براءتهم من دم المسيح.
- د. عادل العلي