في خضم الحياة التي تتصارع فيها الثقافات، وتتنافس فيها الرؤى والأفكار، تتوالى فيها الأحداث في وتيرة متسارعة متلاحقة كأمواج بحر متلاطمة هادرة. وفي عالم ذابت الفوارق والمسافات فيه بين الحضارات والثقافات، وصار القاصي يدركه الداني، والداني يتصل بالقاصي صوتاً وصورة، وصار العالم بين أطراف الأصابع، يتعرض تراثنا الثقافي غير المادي لمخاطر جسيمة تشكّل تهديداً مباشراً على بقائه واستمراره، وقد تؤدي إلى تشوهه فيصير مسخاً لا قيمة له.
إن موروث آلاف ومئات السنين قد يضيع في سنوات قليلة وأيام عديدة إن لم ندرك خطورة ما يهدده، وإن لم نسع جاهدين للحافظ عليه. هذه المهددات والمخاطر قد تكون من خارج المجتمع، وافدة عليه من مجتمعات نائية وثقافات وافدة في إطار ما يسمى بالعولمة، أو من داخل المجتمع ذاته بحكم ما يلحق بالمجتمع من تطور اجتماعي وفكري واقتصادي.
أولاً: العولمة
تشكل العولمة الطاغية التي تبسط نفوذها يوماً بعد آخر، أخطر المهددات على التراث الثقافي غير المادي، الوطني منه والقومي. وتتمثل تأثيراتها الطاغية في تذويب ثقافات، وحضارات، وديانات في عالمها، فتفقدها هويتها وخصوصيتها المميزة، وتصير المعارف والأعراف والتقاليد، في ركابها، شيئاً من الماضي وموضع إهمال وإغفال. والعولمة ترجمة لكلمة Modularization الفرنسية، بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي، وتعني بالإنجليزية Globalization، وهي الكلمة التي ظهرت أولاً في الولايات المتحدة الأمريكية، بمعنى تعميم الشيء، وتوسيع دائرته ليشمل الكل. وأصل هذه الكلمة هو Globe، وتعني كرة أرضية، أو أي جسم بشكل كروي. هي إذاً مصطلح يعني جعل العالم عالماً واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبة، أو هي إكساب الشيء طابع العالمية، وجعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميًّا.
ولفهم العولمة اصطلاحاً ومعنى، يتطلب الأمر البحث في جذورها اللغوية، فأصل الكلمة في اللغة العربية يعود إلى كلمة (عالَم)، ومن المفترض أنها مشتقة من الفعل: عَوْلَمَ (على صيغة فوعل أو فعلل) يُعَوْلِمُ عَوْلَمَةً، وهذا الاشتقاق يعني أن الفعل يحتاج لوجود فاعل يفعل، أي أنّ العولمة تحتاج لمن «يعولمها» أي يعممها على العالم. وهذه الكلمة بهذه الصيغة الصرفية لم ترد في كلام العرب، وإنما فرضتها الحاجة المعاصرة، وهي تدل على تحويل الشيء إلى وضعية أخرى، أي وضع الشيء على مستوى العالم، وبهذا صارت هذه الكلمة متداولةً على ألسنة الكتاب والمفكرين في أنحاء الوطن العربي للدلالة على الشيوع العالمي. وبهذا المفهوم للمعني اللغوي للكلمة، يمكننا أن نقول بأنّ العولمة تعني: تعميم نمط من الأنماط أو سلوك من السلوكيات، يخص بلد من البلاد أو جماعة ومجتمع ما، وجعله يشمل الجميع أي العالم كله.
وعلى الرغم من وضوح المعنى، فإن مفهوم العولمة يختلف باختلاف توجهاته ومجالاته؛ فمفهومه في السياسة يختلف عنه في الاقتصاد، وفي الإعلام أو الأدب، علم الاجتماع، وغيرها. ففي الساسية تعني اتجاه الحركة الحضارية نحو سيادة نظام واحد، تقوده في الغالب قوة واحدة غالبة ومسيطرة. وفي الاقتصاد تعني زيادة في درجة الترابط الاقتصادي المتبادل بين المجتمعات الإنسانية، من خلال انتقال السلع، ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج. وتعني في الإعلام انتشار المعلومات وإشاعتها لدى الجميع، وفي الاجتماع زيادة معدلات التشابه بين المجتمعات والجماعات في الأفكار، والأنماط والسلوك؛ وبالتالي تذويب الحدود الجغرافية بين الدول، أو سيطرة ثقافة من الثقافات على مختلف ثقافات العالم. وقد تعني في مفهومها الشامل ربط العالم بالمنظومة الدولية في أبعادها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والفنية والمعرفية، ولها آلياتها المتطورة في تنفيذ خططها عالمياً عن طريق الوسائط: وهي نشر المؤسسات الفضائية بكل أنحاء العالم لربطها بكيان واحد، أو أمة واحدة، بواسطة آليات الاتصال والتواصل الواسعة الانتشار التي تستطيع إيصال رسالتها الثقافية المنتقاة بعناية لجميع أركان القرية الكونية (الكوكبة) ولكل أذن، وباللسان الذي تفهمه. وتعمل على دمج سكان العالم معاً ليشعروا بأنهم في مجتمع واحد.
والعولمة كالعملة ذات الوجهين، أو سلاح ذي حدين، لها إيجابياتها كما لها سلبياتها، ومن الجوانب الإيجابية التي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، استفادت وتستفيد منها شرائح كثيرة من المجتمعات، أهمهارواج تكنولوجيا المعلومات، والاتصالات الفكرية، والانفتاح الثقافي والعلمي والتقني بين الشعوب والدول، وذلك عبر الوسائط المختلفة في صورتها العلمية والثقافية.
كما ساعدت في تواصل الأفراد، والشعوب مع الأحداث العالمية، من خلال شبكات الاتصالات والإعلام الدولية، والفضائية، وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت). كما تساعد على نقل المفاهيم، والأفكار الجيدة التي تساعد الإنسانية على الارتقاء بحياتها على كوكب الأرض، مثل: الاهتمام بالبيئة، والحفاظ عليها. ومع اختصار المسافات في ظل العولمة، أمكن إلقاء الضوء على كثير من مناطق العالم التي تعاني مشاكل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، مما يساهم في النقاش حول أسبابها، وكيفية الخروج منها. ومنها أيضاً أنها تمكِّن من التعرف على المذاهب الفكرية الوافدة، ومناقشتها، والتصدي للحركات الفلسفية الهدامة.
وأخيراً، لعل من إيجابيات العولمة المتعلقة بالتراث والموروث الثقافي غير المادي، تعميق التواصل بين من المهاجرين، والاتصال بأوطانهم الأصلية، وربطهم بثقافتهم، ولغتهم، وتراثهم الحضاري.
ومع ذلك فإن للعولمة سلبياتها الواضحة، لا يمكن تجاهل تأثيراتها على التراث الثقافي، والثقافة المحلية فبخلاف إشاعة الذوق الغربي الوافد في الاستهلاك، فإن العولمة، بما تمثّله من حداثة وثقافة وافدة، تشكِّل تحدياً كبيراً للتراث الوطني والثقافة المحلية. ولعل أخطر سلبيات العولمة، وأكثرها تهديداً على تراثنا الوطني والقومي، هو الضرب في الثوابت الحضارية، والخصوصيات الثقافية لمجتمعاتنا، مثل: العقيدة الدينية، واللغة، والتاريخ، والولاء للوطن والأمة.
ويتعدى التأثير السلبي للعولمة إلى المهارات الموروثة، والمعارف المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية، فتشكل تهديداً كبيراً على بقائها واستمرارها، حيث تتأثر كثيراً من الحرف الشعبية التقليدية، في مجتمعاتنا المحلية، بالتأثيرات والمتغيرات الخارجية التي أدت إلى تفوق المنتجات الوافدة عليها، ولم تعد حدود الدول القومية هي حدود السوق الحديث، بل أصبح العالم كله مجالاً للتسويق، فانحسر مجال شيوعها، وضعفت قوتها التنافسية.
ومن هذه الحِرَف: حرف صناعة الفخار، وصناعة السجاد اليدوي، وحرفة خراطة الخشب أو الحفر عليه، وهي حرف شعبية ترتبط ارتباطاً تاريخياً، واجتماعياً، وجغرافياً، ونفسياً بالمجتمع. وفي ظل العولمة الثقافية، الخوف كل الخوف يكمن في هيمنة العالمي على ما هو وطني أو قومي، وقد يتجاوز الأمر النظر إلى الوطني على أنه تابع ينبغي أن يتكيف مع ما هو عالمي في الثقافة، والاقتصاد، والاجتماع. ولعل من الأمثلة البارزة على ذلك، شيوع المستنسخات الصينية للمنتجات الأثرية الفرعونية وغزوها ليس فقط للسوق العالمي، بل للسوق المصرية نفسها، صاحبة التاريخ الطويل والخبرة الكبيرة في مثل هذه الحرفة، لتنافس هذه المستنسخات الصينية ما تنتجه الأيدي المصرية وتقوم بترويجها سياحياً في مصر وتصدرها للخارج وذلك في عقر دارها.
وتشكّل العولمة الثقافية أخطر أنواع العولمة على الثقافة الوطنية، والقومية. وباعتبار التراث ليس إلا ثقافة الأمة المتجذرة فيها، فعلى العكس من ذلك، فإن ثقافة العولمة ليس لها جذور تاريخية خاصة بها، بل هي ثقافة مصطنعة، وأثرها السلبي يتمثل في نشر أفكار وسلوكيات من شأنها تحطيم الولاء للقيم الثقافية والتراثية، وإحلال أفكار وولاءات ناتجة عن التطبيع محلها، مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري، وقطع صلة الأجيال الجديدة بماضيها، وتراثها.
هذا بجانب، نشر روح الفردية وتخلي الفرد عن عاداته، وتقاليده وأعرافه إلى عوالم مجهولة بعيدة مكاناً، وزماناً، وثقافةً يجد فيها ذاته، وخصوصيته. وبالتالي فإنها تقوم بنزع الخصوصية الثقافية عن طريق زيادة معدلات التشابه بين الشعوب، والمجتمعات؛ حيث تكون النتيجة هي فصل الشعوب عن هويتها، وذاتيتها، وعلى وجه التحديد تراثها الثقافي والحضاري الذي يحمل في وجوده منظومة القيم المجتمعية، وإفراغ الشعوب من كل محتوى حضاري، وثقافي، وبروز ظاهرة التبعية الثقافية.
ثانياً: تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية
تتطور الحياة تطوراً سريعاً، ومطرداً، ولقد تغيرت كثير من ملامح الحياة في السنوات القليلة الماضية، ويتوقع لها أن تستمر في تغيراتها لتصطبغ بكل ما هو جديد بين ليلة، وضحاها. وهذا التغير يلقي بظلاله على مفردات الحياة المختلفة، وخاصة التراث الثقافي غير المادي للمجتمع. فبعد أن هجر الإنسان العربي تراثه العمراني القديم إلى العمارة الحديثة المبنية من الأسمنت والزجاج، فقد أصاب كثير من مفردات التراث الثقافي غير المادي الهجران والضياع، والاختفاء أو التغيير. وشمل ذلك على سبيل المثال الحرف التقليدية المختلفة التي اختفت أو كادت تختفي من حياتنا المعاصرة، وتركت الساحة للمصنوعات المميكنة الحديثة، ومن أمثلة هذه الحرف التي تعاني من التهميش أو التواري: حرفة السدو أو النسيج على النول اليدوي، والحدادة، وصناعة النحاسيات، وصناعة السلال من الخوص، والتطريز أو الحياكة اليدوية، وصناعة الزجاج الملون، والفخار، وأشغال الخرز... وغيرها.
وكذلك ألقت تطورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية ظلالها على العادات والتقاليد، التي تربى عليها أفراد المجتمع، حيث جاءت الحياة المعاصرة بتطوراتها المتواترة والمتصاعدة لتقضي على كثير منها، لتتلاشى أو تتوارى أمامها عاداتنا وتقاليدنا بشكل أو بآخر؛ فقد حلّ المذياع محل «الحكواتي» في المقاهي حيث كان يقص على الناس السير الشعبية، وجاءت السينما لتشدّ إليها قسماً من رواد المقاهي وتقضى نهائياً على «خيال الظل»، وصندوق الدنيا، وجاء الهاتف النقتال ليأخذ كل فرد من أفراد المجتمع إلى عالم افتراضي أو جزيرة منعزلة يعيش فيها منفرداً ومنفصلاً عن أفراد المجتمع لتزداد الهوة بينه وبينهم. وتحولت الأسرة الكبيرة برئاسة الجد إلى أسر منبثقة صغيرة ومتباعدة، وحلّت مسلسلات الأطفال الكرتونية التلفزيونية، بما فيها من تأثيرات عدوانية وعنيفة محلّ حكايات الأجداد، والجدّات، وتوارت الكتاتيب أو كادت في كثير من المجتمعات لتحل محلها أشكال جديدة، ومع تقدم الكتابة الآلية يتوارى الاهتمام بالخط العربي المكتوب باليد، وهكذا انحسرت كثير من ملامح التراث الشعبي لمصلحة عادات جديدة تلائم التطور الحاصل في البنية الاجتماعية والاقتصادية.
وكذلك الحال بالنسبة لبعض اللهجات، فانحسرت الفصحى والتعبيرات السليمة في اللغة العربية لحساب اللهجات العامية، وانتشر الزجل أو الشعر العامي، وأصبح هو اللون السائد والغالب على حساب شعر الفصحي، وتحرر شعر الفصحى من مورورثه الوزني لتحل قصيدة التفعيلة ومن بعدها قصيدة النثر، أو كادت، محل القصيدة العربية الملتزمة بالقافية والوزن. ولم ينل التغير لوناً واحداً من ألوان التعبير كالشعر فقط، بل امتد إلى اللغة ذاتها، فكتبت أسماء حوانيت تجارية ومطاعم بلغة أجنبية، بل ابتدع الشباب لغة فيما بينهم تسمى بلغة «الفرانكو أرابيك» هي أبجدية مستحدثة غير رسمية ظهرت منذ بضعة سنوات، تستخدم هذه الأبجدية على نطاق واسع بين الشباب في الكتابة عبر الإنترنت أو عبر رسائل المحمول في المنطقة العربية، وتُنطق هذه اللغة مثل العربية تماماً إلا أن الحروف المستخدمة في الكتابة هي الحروف والأرقام اللاتينية بطريقة تشبة الشفرة. ومهما كان السبب في الانتشار الواسع لهذا النوع من الأبجدية في الكتابة عبر الأجهزة الإلكترونية فإنها تمثل أحد مهددات الالتزام بالأبجدية العربية الأصيلة، وتشكِّل تشويها للغة العربية وخطراً عليه.
وكذلك الحال في العديد من موروثنا الثقافي غير المادي والفنون الأدائية كالرقص الشعبي، والموسيقى التقليدية، والغناء والأهازيج، وجميعها دخل عليها الطابع الغربي المخالف، في أغلبه، للتقاليد العربية والطابع العربي، والمدمر لقيم المجتمع العربي وأخلاقياته، والمشوهة لأعرافه. وكذلك الحالفي أنماط الزي أو الملبس، وجميعها أصابها ما أصاب غيرها من مفردات التراث الثقافي غير المادي، من تغيير أو تشويه أو اختفاء نتيجة ما حدث للحياة المعاصرة من تطورات اقتصادية واجتماعية.
كل هذا وغيره، من المؤثرات السلبية للعولمة وتطورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، تشكل تهديدات مباشرة للموروث الثقافي غير المادي الأمر الذي يتطلب الوعي بمثل هذه المهددات والمخاطر، والوقوف على مسبباتها، وسد ذرائعها، والاهتمام بالتراث الثقافي غير المادي، وتعهده بالرعاية، والحفاظ عليه، وإحيائه، وخاصة لدى النشء والشباب حتى لا نفاجأ بشباب ممسوخ فاقداً لهويته، ودينه، ولا يعي تاريخه، ولا يحمل انتماءً لوطنه وأمته.
- د. محمد أبو الفتوح غنيم