وأنا أكتب هذا المقال الذي أتعبد لله به، فالنعمة التي نرتمي في أحضانها اليوم ما كانت لتتأتى لولا دعاء أجداد لنا سلفوا، كانوا يرفعون أكف الضراعة للعلي القدير أن يسكب على أعقابهم وابل نعمه الظاهرة والباطنة، فتقبل الله تلك الدعوات الصادقة.. واليوم إذا كان الأجداد قد قضوا وهم الآن في ذمة الله فإنه كان لزاماً علينا نحن الأبناء أن لا نفرط بمخرجات هذه الدعوات، وما علينا سوى شكر المنعم. ولكن لكي تستديم لنا هذه النعم فإنه خليق بنا جميعاً أن نسلك ما سلكوا، وذلك بتقفي آثار دين الله الذي ما من شعب أو أمة تنهج هذا النهج إلا وصب الله عليهم نعمه مدراراً. إن الارتماء في أحضان الدين القويم يجلب الخير، وما من سعادة تُقطف في هذه الحياة إلا هي مرهونة بامتثال هذا الدين. ولن تكون الحياة الدنيا ناعمة الملمس بالدنيا والآخرة إلا بالتمسك بأهداب هذا الدين، واقرؤوا معي قول الحق تبارك وتعالى في محكم تنزيله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}. إذا كان أجداد لنا سلفوا قد عرفوا بحق أن طاعة الله وشكره كفيلة بأن تنزل النعم من فوق الرؤوس، وأن تتدفق البركات من تحت الأرجل، فإن هذا دليل واضح على أنهم قد عرفوا أنه ما من نعمة أطلت برأسها وما من نقمة لاح ذيلها إلا من الله.. فمن تاق إلى الأمن الوارف فعليه بهذا الدين، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.. والظلم المراد به هنا هو الإشراك بالله. إن جذر هذا الدين يكمن بالدرجة الأولى في معرفة الله وتقديره حق قدره. إن الله تعالى يدافع عمن أطاعه وقت الحرب ويديم له نعمة السلام وقت السلام.. وإنه من دواعي سرور كل من أطاع الله أن نعمَ الله تثبت وتزيد بالشكر. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..}.. ولكن شكر الله ليس بتمتمة ألسن! بل أن يكون للشكر واقع ملموس يُنطق الشكر ويترجم في دفع مؤونة الشكر.. وإن طاعة الله يجب أن لا يقتصر وجودها في دور العبادة فحسب، بل يجب أن تسيح عبادة الله في المصنع وفي الحقل وفي السوق.. فإن دين الله ليس طقوساً فارغة بل معانٍ سامية وآدابات غايات نبيلة. إن استحضار جلال الله في الرخاء كفيل بأن يزيل المحن وقت الشدة. إننا إذا أعطينا الله حقه فكل شيء يكون بين أيدينا يقول عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم: (اطلبوا ملكوت الله وبره وكل الأشياء تُزاد لكم).. ما أكبر حظ الإنسانية التي ما عليها إذا تاقت لكل شيء أن تطلب ملكوت الله وبره.. إن نعم الله ستنزل من فوق رؤوسنا وهي من بركات السماء وستتدفق من تحت أرجلنا وهي من بركات الأرض, وما ثمن ذلك إلا أن تقول البشرية جمعاء ربنا الله.. ولن يكون هناك دفقات أمل تفيض بالنفس البشرية إلى بر الأمان إلا إذا كان الإيمان بالله يحدوها.. فمعرفة رب هذا الكون تُفضي بالذات البشرية إلى أفق أرحب، وإن الذات التي تنسى الله هي ذات يمزقها الخواء الروحي وسوف تكون مهترئة سواء وطئت بأقدامها الأرض أو السماء. ولن يلملم شتات هذه الذات المهترئة التي يعتصرها الحزن ويمزقها الضياع إلا بشيء واحد وهو الاتكاء على رب هذا الكون.. فالبشرية قد تخوض غمار هذه الحياة بدون إخفاقات وانتكاسات إذا صوبت ناظرها نحو الله.. والذي يمعن النظر في دراسة أسفار البشرية يعلم حينها أنه ما من أمة زلت أقدامها وتاهت في دياجير الظلام إلا لكونها تنكرت لله.. وما من أمة سمت في هذا الكون وعلا شأنها إلا لأن لها معرفة أصيلة بهذا الإله.. وإن الحفر والأزمات التي تهوي بها البشرية لن تبارحها إلا إذا تمسكت بحبل الله، وحبل الله هو «العروة الوثقى» في كل شيء فمن أراد أن يتمسك بالرفاء الاقتصادي، ومن أراد أن يتمسك بالأمن الوارف، ومن أراد أن ينأى عن الأمراض والأسقام المنظورة وغير المنظورة، فما عليه إلا أن يتمسك بهذه العروة، وما سواها حبال ذات أسمال بالية. والبشرية ليست ملزمة لتحقق نجاحات والتمسك بهذه النظرية أو تلك، أو أن تنهج هذا السلوك أو ذاك ولكنها ملزمة من أجل حصد النجاحات واتباع وحي السماء لأهل الأرض.. وإلا فالبشرية ترتكب حماقات لن تتحاشاها إلا إذا التفتت إلى الهدي القويم وليس هناك هدي أقوم من دين الله يقول الله عنه في كتابه العزيز: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.. وإن كل شيء في هذه الحياة يخضع للتجربة سوى العلاقة مع الله فنتائجها مؤكدة.