مازلت إلى وقت قريب أشعر أن هجرة الكُتاب من الأدباء والمثقفين والمفكرين السعوديين للنشر عبر دور نشر خارجية هي أمر مبالغ فيه، وأن ذلك يعود في الغالب لأسباب خاضعة لإرادة الكاتب قد تتعلق بعملية التسويق لا أكثر. لكن ذلك الشعور قد تلاشى تدريجياً حتى اختفى تماماً بعد خوض التجربة الأولى في النشر، تلك التجربة التي صاحبها التعقيد الشديد والعقبات الكثيرة التي جعلتني أتراجع عن فكرة النشر في الداخل والاتجاه مع بقية السرب إلى الخارج.
فبعد أن يجد صاحب الكتاب كل التعقيدات حتى تقبل أحد دور النشر «الربحية» نشر كتابه يقع في إشكالية جديدة تتعلق بمقص الرقيب الذي يضعك بين ثلاثة خيارات، فإما أن تقبل بتعديلاته التي قد تشوه الفكرة الأساسية في الكتاب، وتحيد بك عن المعنى المراد الوصول إليه، أو أنه بكل بساطة سوف يرفض منح الفسح لكتابك. وهذا ما يجعلك على كل حال تتجه لخيار ثالث كنت ترفضه وهو النشر عبر دور النشر الخارجية التي عادة ما تكون على أتم الاستعداد لتلقي فكرك وكتبك ونشرها وتسويقها دون أن تتكبد أي عناء.
لقد هاجرت الأفكار حين وجدت بيوتاً تشرع الأبواب لاستضافتها، واتجهت الأقلام لتنقش لدى الأوطان الأخرى عصارة الفكر «السعودي» بما يحمله من ثقافة وتاريخ وتراث ونظريات وأدب، والسؤال الأهم هنا: من المسؤول عن تهجير كل تلك الأقلام؟ والأفكار؟ ومن يضطرنا لنضخ أفكارنا للخارج؟ لقد كانوا يقولون في الأمثال أن زامر الحي لا يطرب. فهل أصبحت أقلام أبناء هذا الوطن لا تطرب، حتى يواجه الكاتب ما لا يمكن تحمله من التعقيد حين يفكر بالنشر في وطنه!
إني أتفهم جيداً أن لنا نحن السعوديين خصوصية «خاصة جداً» في كل شيء، نرى الأمور دائماً بمقاييس أخرى قد لا تكون موجودة لدى الآخرين، لكن تلك الخصوصية وأعني في موضوع النشر، قد أصبحت تشكل عائقاً أمام حركة النشر والثقافة وتغذية المكتبات السعودية. خاصة وأننا نعيش في عام 2016 م الذي يفترض فيه أن حراكنا الثقافي قد وصل إلى مرحلة أبعد مما هو عليه الآن، وصار هناك وعي بالغ بأهمية نشر الكتب وترجيح كفة الفكر بدلاً من قمعه بالتعسف في المنع، وإطالة المراحل التي يمر بها الكتاب قبل إجازته. لقد تطور كل شيء وصار لدينا هيئة للثقافة وانفتحت الكثير من الرؤى على العالم، وصار من المفترض أن تتطور أيضاً سياسة النشر وتصبح أكثر مرونة مع الأفكار التي لا تمس الثوابت ولا تطرق الأبواب المحظورة.
يقول محمد البشيت في مقاله الذي نشره في صحيفة الجزيرة في 14 فبراير 2015 م بعنوان الناشر والمؤلف: «يعاني الكاتب المؤلف السعودي معاناة شديدة من نشر نتاجه الأدبي بالداخل، فيصطلي بين نارين؛ نار غلاء أسعار نشر كتابه، ونار تأخر النشر، فيما يمر به كتابه على عدة مراحل في إجازته للنشر ومروره بعدة لجان، ربما لا تقرأ الكتاب وإنما تستوحي من عنوانه ما يستوجب المنع الذي في معظمه منعاً تعسفياً».
ولك أن تكتشف ذلك حين تتجه في معارض الكتب لدور النشر اللبنانية والمصرية على سبيل المثال، لتجد أن أغلب كتابها من السعوديين، فمن المسؤول عن ذلك؟ وهل يدرك المسؤول أن الثقافة والفكر قد صاروا من أهم الروافد الاقتصادية لهذه البلاد؟! وأن من أهم واجباته هو إيجاد حل لأزمة النشر التي أدت لتهجير كل تلك الأقلام والأفكار للخارج؟!
- عادل الدوسري
aaa-am26@otmail.com
AaaAm26@