الثقافية - حمد الدريهم:
حراك أدبي وثقافي وفكري عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأجيال جديدة في مقتبل العمر، أتاحت لهم تلك الوسائل الفرصة الذهبية للتعبير عن آرائهم في المشهد الثقافي والفكري؛ بل وسحب بساط قيادة المشهد الثقافي والفكري من قامات ثقافية و فكرية لها وزنها الثقيل في الذاكرة الثقافية.. قالها أمبرتو إيكو في عبارة مدوية قبل الرحيل لصحيفة «إل ميساجيرو» الإيطالية : « إن و سائل التواصل أتاحت لجحافل الأغبياء أن يتحدثوا و كأنهم علماء ..»؛ لتحدث صدى واسعا من المقالات و النقاشات العديدة حول ذلك الرأي و لتفتح الأسئلة ..أليست تلك المواقع أتاحت الفرصة الذهبية للجميع للتعبير عن آرائهم..؟ وأليست هي «الشفاهية الثانوية» كما يراها المفكر الأمريكي والتر وانغ المتمثلة في الراديو والتلفزيون والانترنت، ويجب على الجميع الولوج و الاندماج معها ؟ وما واقع ذلك الحراك وأثره في الثقافة العربية ؟
عبدالكريم: القيمة والتواصليات الحديثة
لاشك في أن الثورة المعلوماتية كما نعرف جميعا لا تقل عن الثورة الصناعية، وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي وضعا جديدا من التواصل يتميز بالسرعة والكثافة والتقبل واختلاف الإرسال والاستقبال كعمليتين أساسيتين عن السابق والأهم أن مجال الحرية اتسع كثيرا وتقاربت المفاهيم وأصبح النمط الغربي يتسلل رويدا رويدا ليعم الكون ولكنني منذ فترة أتأمل في الاستجابة والأثر لهذه التواصليات كتويتر، وأضع علامات استفهام حول المقارنة بين التلقي الغربي لها والتلقي العربي ففي الوضع الغربي طغى الاستهلاك على المشهد في حين طغت الإيديولوجيا لدينا على المشهد التويتري. يضاف إلى ذلك أن تويتر بات مخترقا اختراقا عنيفا من كتائب الإنترنت التي تحمي وتريد بقاء الوضع الفكري والوعي، كما هو، إن لم تساهم في تأخيره لفت نظري كتاب الغذامي وبحث محمد العباس عن أثر تويتر ولكنني أرى أن مقاربة هذه الحالة الخاصة التويترية تحتاج إلى مفاهيم إجرائية تعمل على مقاربة ما ، ولذا أقترح أن ننظر إلى ما يحدث في تويتر عبر مفهومي العرض والاستعراض فما هو في أوروبا وأمريكا عملية عرض في الغالب وهو النمط الإنساني يقترن بقوانين الحرية وبقوانين السوق؛ أما ما لدينا فهو استعراض في الغالب وهي عملية تزييفية لعملية العرض وهي انتفاخ كاذب وهي خواء أو مجرد ستر للخواء.. في العرض تجد الرديء والفاخر والعميق والسطحي وأنت حر في اختيارك في حين تجد في الاستعراض الرديء فقط ومن هنا تتشكل في أوروبا وأمريكا ثقافة واعية بنفسها وبما يعرض في حين تتشكل لدينا حالات مصطنعة تناسب الاستعراض، ومع هذا كله فالجواب الإيجابية في وسائل التواصل قللت كثيرا من الاستبداد وجعلت الآلهة تفشل بحسب تعبير إداوراد سعيد وجعلت المستبدين يخرجون من جحورهم الذهبية ليدركوا سعادة التواصل مع البشر ويتأكدون أنهم بشر وأن الكون واسع وأن القيمة أصبح لها قوانين جديدة في ظل التواصليات الحديثة.
شعيب : انتشار مفهوم القطيع!
هناك جانبان للموضوع: أولا الجانب السلبي وهو أن الجميع أصبح يدلو بدلوه في غير اختصاصه يفتي ينظّر ويعتز برأيه، ويتخذ دور المدافع عنه دون دراية أو فهم أو تدقيق مما جعل الأمور تختلط والمعلومات تتداخل وتتسع دائرة الأخطاء على كل المستويات النحوية والفكرية والعقائدية والنفسية، لذلك نجد أن هناك ريتويت وإعادة تغريد بالآلاف لتغريدة كلها أخطاء وأحيانا من أساتذة. للأسف جسد انتشار وسعة منبر التواصل الاجتماعي مفهوم القطيع، بل رسخه وجعله منظومة اجتماعية سواء قبلنا بها أم لا.
إضافة لغياب الرقابة الأسرية والمجتمعية على كثير من المواقع والصفحات أدت لانتشار الانحرافات فالكل يتعرف ويصاحب ويلتقي ودخلنا في عصر العلاقات المشبوهة والمفاهيم المغلوطة للعلاقات، كما تراجعت القيم الأخلاقية وأدت المصالح والأنانية فالكل يريد أن يستفيد ويحصل على منفعة من كلمة أو علاقة .. فظهر لنا ما يسمى بالإنسان الوحش المسخ الذي ابتعد عن إنسانيته كثيرا فنسي أنه إنسان.
ناهيك عن السرقات والاقتباسات دون ذكر المصدر والبعض أصدر كتابا بهذه السرقات ونسبه لنفسه. لقد أصبح هاجس الشهرة والنجومية هاجس صغار العقول والنفوس في مواقع التواصل، فالكل يسجل صورا وفيديو لنفسه دون فائدة أو معلومة لمجرد إثبات الذات والحضور.
إنما الجزء الثاني الإيجابي فهو أن مواقع التواصل أتاحت مساحة من الشفاء النفسي والعقلي للمجتمع فقربت المسافات فأصبح بإمكان الطالب الحديث مع أستاذه و المراهق مخاطبة نجمه المفضل. اتسعت رقعة مخاطبة العقول وتحاور النفوس بين الناس صغارا وكبار من مختلف الطبقات والعقليات فوجد الكثيرين ضالتهم واهتدى الكثير من التائهين لأهدافهم بالحياة، لذلك أسعد كثيرا حين يبوح لي أحدهم بمشكلة خاصة وحين أجيب على سؤاله وأحل مشكلته أفرح وأشعر بإنجاز كبير وكأني حققت هدفي من الحياة أو يقول لي كنت أبحث عنك طويلا وسعيد إنني وجدتك. هناك الكثير من المواهب الجميلة شعراء فلاسفة ومفكرون ضائعون متناثرون في مواقع التواصل هنا وهناك كالدرر. دورنا إشعال ضوء الثقة بالنفس لهم، ليهتدوا لمواهبهم ويصلوا لغايتهم.
العزوزي : نسق التفكير و سرعة المواقع في النشر
الإشكالية المطروحة مع تزايد استخدام وسائل الإتصال الإجتماعي ليس في منح من وصفهم إمبيرتو إيكو بالأغبياء فرصة الحديث فهذه حرية لا يستطيع أحد أن يمنعها عن إنسان بغض النظر عن مستواه الثقافي، وقد يكون المجتمع قد وفر لهم سابقا أشكال معينة للتعبير تتماشى مع التقنية السائدة ساعتها، فإن لم تكن منتشرة وحيزها ضيق فهذا لا ينفي أنها كانت متوفرة فعلا, بل الإشكالية الحقيقية تكمن في نسق التفكير الذي تفرضه سرعة و فعالية هذه المواقع في النشر بالإضافة لعوامل أخرى متى اتحدت فرضت هذا النسق منها مثلا الإجماع على فكرة ما,التبعية العاطفية وما يُفرض من قوى خفية تتعامل بحسابات وهمية من بالونات اختبار للمجموعة و لا تتردد وسائل الإتصال في نفخها لأن هذا في مصلحة ريادتها على باقي المنافسين.
هنا في نظري يكمن الخطر الفعلي الذي قد ينساق وراءه المثقف وغير المثقف والخطر هذا يبدأ في سهولة النسق من خلال فرض معلومة غير ممنهجة وغير موثقة تدعمها صورة أو خلافه تتشابك لتضيق أفق المتلقي كما تفعل الأرملة السوداء متى وقعت الضحية في شباكها , المتلقي الضحية سرعان ما يتحول بدوره لفاعل و مشارك بتدويره للمعلومة دون أن يكلف نفسه عناء البحث أو السؤال و هكذا يتكون نسق فكر كسول اعتمادي يؤثر مع ضياع فرصة التحقيق في منظومة معارفنا ككل متى اعتمد كأرشيف في الذاكرة.
وفي غياب وعي حاضر بمعنى الحرية كمفهوم وكحق يغيب أيضا وعي الكلمة والفعل بين مقدم المعلومة والمتلقي وحين نستعيد ما قاله غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير فإننا سنجد إمكانية تطبيقه لازما على كثافة الجماهير حول وسائل الإتصال الاجتماعي حاليا مع اختلاف بطء المعلومة سابقا وسرعتها حاليا وبقاء النتيجة ثابتة, أغلب المنخرطين في هذه المواقع عاجزون عن إيجاد نمط تفكير خاص بهم أو هناك قيود اجتماعية تمنعهم من ذلك لهذا فهم يلجأون للبحث عن قائد وهو هنا الشخص الذي يملك الجرأة على التعبير عن آراءهم و ليس رأيه بالضرورة لأن الهدف بالنسبة له بعيد تماما عن الرأي، بل هو للشهرة الأقرب فتقتصر مشاركتهم على الدعم من خلال الأدوات التي تمنحها مواقع الاتصال و تسعى جاهدة إلى تسهيلها لتصل إلى أكبر قدر ممكن من المنخرطين و النشر يزيد من سهولة بلوغ الرأي المدعوم سلفا من الجمهور فكيف ساعتها لنا أن نخالف رأيا لم يعد يملكه صاحبه بل تملكه الجماهير.
أمبيرتو إيكو شبه الأمر بحانة سكارى وهو ليس بعيد تماما عن الحقيقة لكن أجد الوصف الأبلغ هو سوبرماركت كبير ندخله لغاية محددة لنخرج منه بأشياء ثانية لم تكن لتخطر لنا بداية فهكذا هي مواقع التواصل الإجتماعي مهما كان حرصنا جاد في الأخذ بالجيد و ترك السيئ؛ فوفرة المعروض تؤثر علينا سلبا فنأخذ السيئ مع الجيد و يختلط الحياد مع المجاملات مما من شأنه أن يسرع وتيرة نسق التفكير الكسول و يؤسس له أرضية معتمدة ومدركة.
سليمان: الانبهار والموجات التقنية الحديثة
مقولة في عين الصواب، أمبرتو إيكو وغيره من الواعين بالرسالة الثقافية أدباً أو فناً أو غيرهما، يدركون تماماً معنى السلامة الثقافية، وأهمية أن يشتغلوا في مساحة ثقافية (صحية)، من يحترم تجربته ورسالته الثقافية لن يسمح أن يُسحب من مساحة العمل إلى مساحة الجدل، العمر أقصر من دفعه في جدال و سجال، والعمل أثبت وأصدق من كثير الكلام. فالثقافة بوجهها العام حتى تكون مهيأة للعطاء والنمو لا بد من توفر بيئة ومناخ هادئ، يقوم على احترام كامل لكل ما يتصل بها، أما مواقع التواصل فهي أماكن قائمة على الضجيج، والصراخ، والتنظيروتفريغ الغضب الاجتماعي، والنقد غير المعني أصلا، والاحترام يكاد يكون مفقوداً، أنا متأكد أن جُل من يحضر في هذه المواقع هم أشخاص يتحدثون في أمور لا علاقة لهم فيها، ومن يتحرك فيها بشغف وحماس هم أنفسهم الذين كانوا يكتبون على الجدران، وبمجرد أن وجدت هذه المواقع جعلوها بديلاً، فاستراحت الجدران منهم.
بالطبع هي أتاحت الفرصة للجميع بأن يعبروا كيف شاءوا، لكن من هم الجميع؟ وهل لآرائهم قيمة؟. هذه المواقع قائمة على الشعارات والشعارات مطية المغلوب، فأنا ككاتب ما دمت أحترم نفسي قبل فني وقلمي، لن أسمح لمثل هذه المواقع أن تسلبني ثانية من وقتي، هذا خلاف تأثيرها السلبي: صحياً، نفسياً، ثقافياً، إلخ، ناهيك عن وقعها السيئ على الثقافة العربية، فقد رفعت الفوضى عالياً، وقاتلت الجودة بسلاح الرداءة. مهما مجدها المنبهر بها تبقى أمراً عابراً كغيرها من الموجات التقنية والتسويقية التي تمر بالحياة الثقافية، وكما في القول المأثور: لا يصح إلا الصحيح .
المجنوني : أنتصر لأن يقول الجميع ما عندهم.
أميل إلى الاعتقاد بأن رؤية أمبرتو إيكو في هذا الشأن رؤية محافظة، ومفرطة في التشاؤم، ونابعة من انعدام تسامح مع الوسيط الجديد الذي أتيح لإنسان اليوم. لن يضير شيئا أن يقول الناس، أيا كانوا، ما يجول في خواطرهم. هذه الديمقراطية تشكل أس وسائل التواصل الاجتماعي التي نستخدمها يوميا. والجدير أن يُفرح بإتاحة الفرصة للجميع، بمن فيهم من يراهم إيكو على أنهم أغبياء، لأن يكون لهم صوتهم عِوضَ أن يسرقه أو أن يتاجر به غيرهم. وفي ظني أن بعض المنزعجين من «ارتفاع» صوت الجماهير هم ممن يريد أن يصون حدا يتوهّمه بين أولئك الجماهير وبين نفسه. وما يصيبه بالذعر هو أن يشهد هذا الحد يتهاوى فلا يعود يفرّق بينهم وبين نفسه.
على المستوى الشخصي أنتصر لأن يقول الجميع ما عندهم، ومن يتوجس من انفتاح الفرصة الهائل للجميع تعوزه الثقة كما أسلفت، أولا الثقة فيما عنده وثانيا الثقة في قدرته على تلقي ما عند غيره. وفي هذا الصدد أود أن أشير إلى نقطة مهمة في رأيي، وهي أن منصات التواصل الاجتماعي قائمة على قواعد جديدة، وحريّ بنا أن ندرك تلك القواعد ونفهمها كيما نكون قادرين على التعاطي معها.
الامتعاض منها مؤشر على أن الفرد غير مستعد للتخلي عن قوانينه المألوفة وتعلّم قوانين جديدة. هذه سمة العصر وعلينا القبول بها. من غير الصواب أن نتوقع أن تستمر العلاقات التي كانت تحكم وسائل التواصل القديمة، كما هي حتى وإن كنا نشهد تحولا ذا بال مثل الذي جاءت به وسائل التواصل الاجتماعي.
ختاما.. أقول إن هذه الوسائل لها ما لها وعليها ما عليها، تماما مثلما كانت سابقتها، وإن ما يراه أحد ما نقمة قد يراه آخر نعمة.