آه من يأخذ عمري كله ويعيد العمر والجهل القديما
- إبراهيم ناجي
لم نكن كثيرين نحن اطفال الحي، الحي كان صغيراً والقرية كانت صغيرة والمسجد الذي كنا نصلي فيه أيضاً كان صغيراً بما يكفي ليتسع للمصلين والغرباء والعابرين وأكثر.. وكان من قش وجريد لكنه مسلح بإيمان البسطاء.
ولكن هذه ليست الذكرى الوحيدة التي تستعاد الآن، ورمضان كله شهر للذكريات التي تتجدد قبل كل هلال كما تتجدد لي ذكرى مسجدنا الصغير الذي كنا نبتنيه.
لا أتذكر من من الأطفال الذي كان يتزعمنا ونحن صبية لم نتجاوز العاشرة لنبني مسجدنا القريب من مسجد الحي كل عام، مسجدنا الصغير الخاص بنا للإفطار فقط. لكنه كان قريبا من المسجد وكانت كل الارض فضاء.
كنا قبل رمضان نخط على الرمل شكل المسجد بمحرابه وقبلته ثم نضع أحجارا على الخط الذي رسمناه ويتشكل مسجدا .. مسجدنا الصغير مسجد الاطفال في رمضان.
الحي الصغير كله كان يفطر في المسجد من أجل الغرباء والعابرين ومن أعوزتهم الحياة، ونحن الاطفال ايضا كنا نحمل إفطارنا ونجلس وحدنا في مسجدنا متصنعين انتظار الأذان. الأمهات كن يتشاطرن معنا في هذا الفرح والإيمان الطفولي وكن يخبزن لنا اقراصا صغيرة جدا ويضعن لنا اللبن في آنية صغيرة ايضاً، ونبرد الماء في دوارق «شربات» صغيرة.. شربات مبخرة بالهيل والمستكي وما من ثلج أو كهرباء في ذلك الزمن ..الأمهات والاباء كانوا أكثر ابتهاجا بنا نحن الصغار ونحن نجلس في مسجدنا الرملي بانتظار الأذان متصنعين العطش وعيوننا على حبات التمر وعلى شربة الماء وعلى الكبار لنفعل مثلما يفعلون. ونفطر وحدنا نحن الصغار ثم نصلي مع الكبار ومثلهم نعود لأمهاتنا بانتظار بقية تفاصيل المساء وسماع «أم حديجان « عبر الراديو بفرح لا يعادله فرح الكون.
المسجد هذا يبقى كل الشهر يجمع الصغار كل ليلة، وبعد العيد ننساه وتتناثر أحجاره ويمحى بانتظار رمضان قادم وعام آخر.. عام نكبر فيه كثيراً.
وكبرنا وتفرقنا والمسجد القديم تغير والحي تغير وما عاد الصغار يخطون مساجدهم على الرمل ولا يفطرون مع الغرباء ولا يضحكون بملء القلب مع شخص واحد ..شخص يؤلف ويمثل ويخرج ويضحكنا من الأعماق لا لأنه يمتلك المعجزة ولكن لأن الفرح كان قريباً جداً. ويا مسجدنا القديم وحينا القديم وفرحنا القديم ليتنا كنا نعرف ما الذي كان ينتظرنا ولربما تلكأنا كثيراً في سنوات الطفولة التي كنا نستعجل.
- عمرو العامري